دَعْوَتُنَا : لأَهْلِ القبلةِ جميعًا إلى التزامِ منهجِ السلفِ، والائْتِلاَفِ في إطارِ أهلِ السنَّةِ والجماعَةِ، والاجتماعِ على الكلمَةِ "كلمَةِ التوحيدِ" وإصلاحِ المجتمعاتِ على ضوءِ ذلك، وتجديدِ الدينِ، وحياةِ المسلمين؛ حتى ينهضوا من جديدٍ أمةً أفضلَ؛ تأمر بالمعروفِ وتنهَى عن المنكرِ وتؤمنُ باللهِ، وتقومُ بواجِبِ الدعوةِ والجهادِ.
: شرح الجوهرة المدنية

  شرح الجوهرة المدنية_(1)_وصف أهل السنة والجماعة  
 

 

الجَوْهَرَةُ المَدَنِيَّةُ

في المبادئِ الأساسيَّةِ والعلومِ الضَّرُوريَّةِ

نظم وشرح الدكتور أبي مجاهد عبد العزيز القارئ

المقدمة

يقـولُ راجِـي ربِّـهِ الغفَّارِ            عُبَـيـْدُهُ عبدُ العزيز القارِي

الحـمدُ للهِ العـظـيمِ البارِي           يُدبّـِر الكـونَ على مِقْـدَارِ

أحمـدُهُ سـبحانَهُ ما أحْكَمَهْ             قَـدْ بَرَأَ الإنسـانَ ثم عَلَّمَـهْ

أَوْحَى بِهَا شرِيعـةً مُحَكَّمَـهْ            آياتُـهَا أنـزلهـنَّ مُحْكَمَـهْ

ثم الصـلاةُ بَـعْدُ والسـلامُ            على نبـيٍّ شرعُـهُ خِـتَـامُ

وَبَـعْدُ هـذا رَجَـزٌ مُـنَمَّقُ           مضـمونُـهُ مُحـرَّرٌ مُحَقَّقُ

نظمـتُـهُ جواهـرًا فريـدَهْ            وسُـقْتُـهُ تَجَـارِبًا سـديدَهْ

فيـه الضـروريُّ لِكُلِّ عاقِلِ            وطالِبِ العلمِ مـن الأَمَاثِـلِ

فاسْمَعْ هُدِيتَ مِنْ أبِي مُجَاهِدِ            مِنْ نَاصِـحٍ ونَاقِـدٍ مُكَابِـدِ


وَصْفُ أَهْلِ السُّنَّةِ والجَمَاعَةِ

نَبْدأُ هَذَا القَصـْدَ بِالتَّعْرِيـفِ            بِالقَومِ أَهْلِ الحَـقِّ والمَعْرُوفِ

عَلاَمَةُ الطَّائِفَـةِ السَّـلِيمَـهْ             وَشَـامَـةُ الجَمَاعَةِ الكَرِيمَـهْ

حُـبُّهُمُ لِلسُّـنَّـةِ البَـهِيَّـهْ            كَحُـبِّـهِمْ لِسَيِّـدِ البَرِيّـَهْ

 

أهلُ الحقِّ والمعروف: أي أصحابُ المنهجِ الصحيح والعقيدةِ الصحيحةِ المعروفَيْنِ من الدين، المُدَعَّمَيْنِ بِالحجةِ والبرهانِ من الكتابِ والسنةِ، وأقوالِ السلف..

هؤلاء سماهم ترجمانُ القرآن عبدُ الله بن عباس رضي الله عنهما أهلَ السنة والجماعة، قال في تفسير قوله تعالى: (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ..) [آل عمران: 106] قال: فأما الذين ابيضت وجوههم فأهل السنة والجماعة وأولوا العلم، وأما الذين اسودت وجوههم فأهل البدع والضلالة(1).

وعن سعيد بن جبير رحمه الله في تفسير قوله تعالى: (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى) [طه: 82] قال: ثم استقام. قال: لزوم السنة والجماعة(2).

وهؤلاء هم الطائفة المنصورة المذكورة في الحديث المتفق عليه: "لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس" وفي رواية: "لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة" وفي رواية: "لا تزال عصابة من المسلمين يقاتلون على الحق ظاهرين على من ناوأهم إلى يوم القيامة"(3) وفي رواية: "لا يزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى يقاتل آخرُهُم الدجَّالَ" وفي رواية: "..ظاهرين على من ناوأهـم حـتى يأتي أَمْرُ الله ويـنـزل عيسـى بن مريـم"(4).

وهم الفرقة الناجية أو الجماعة كما جاء في الحديث المشهور، "إِنَّ أهلَ الكتاب افترقوا على اثنتين وسبعين ملةً، وإنَّ هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملةً يعني الأهواء كلها في النار إلا واحدة، هي الجماعة"(5).

وفي رواية قال صلى الله عليه وسلم: "هي الذي أنا عليه وأصحابي"(6).

وفي رواية أخرى: أنها "السواد الأعظم"(7)

فَسَّرَ الإمامُ البخاري "الجماعة" بأنهم أهل العلم(8)، وهذا واضح لأنهم الذين يَعْلَمُونَ المنهجَ والعقيدةَ، ويَعْلَمُون ما كان عليه النبيُّ صلى الله عليه وسلم وأصحابُهُ، والناس ُ تَبَعٌ لهم، وهم المقصودون بالسواد الأعظم، إذ لا عبرة باجتماع الجهال.

وقال الإمام أحمد في تفسير الجماعة: إنْ لم يكونوا أهـلَ الحديـث فلا أدري مَنْ هم(9).

قال القاضي عياض : إنما أراد أحمد أهلَ السـنةِ والجـماعةِ ومَنْ يعتقد مذهبَ أهلِ الحديثِ(10).

وإنما خُصَّت السنة بالذكر مع (الجماعة) تنويهًا بأهميتها في هذا الباب، فهي مع القرآن المصدران الأساسيان لهذا الدين، وهي أيضًا من أهم ما يتميز به أهلُ الحق عن غيرهم من أهل الأهواء والبدع الذين انحرفوا عن السنة النبوية.

وأما الجماعةُ فالمقصود بهم الصحابةُ؛ بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: " ما أنا عليه وأصحابي" ، والمرادُ التمسُّكُ بمنهج الصحابة - رضوان الله عليهم في التَّلَقِّي وفي العلم والعمل، وإذا أُطلق" السَّلَفُ" فمعناه الصحابة، ومن سار على منهجهم من التابعين والأئمةِ الأربعةِ، وسائِرِ الأئمةِ المُعْتَبَرِينَ؛ علماءِ أهل السنةِ والجماعةِ..

ومن النصوص السابقة يتبين أن أهلَ السنةِ والجماعةِ يتميزون بثلاث خصائص، هي: التمسُّكُ بالسنَّةِ، ولُزُومُ منهجِ السَّلَفِ، والجهادُ.

وهذه الأمة من حيث الجملة منحصرون في دائرتين:

(الأولى): وهي الأوسع نطاقًا، ويدخل ضمنها كلُّ أهلِ القبلة الذين اجتمعوا على لا إله إلا الله، وهذه الدائرة الواسعة تَعُجُّ بأنواع الفِرَقِ والنِّحَلِ، ففيها الاثنتان والسبعون فرقة التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يخرج من هذه الدائرة إلا من ظهر كُفْرُهُ وشَغَبُهُ على السُّنَّةِ والقرآنِ؛ وهم الروافض الذين شككوا في القرآن وأنكروا السنة، وطعنوا في (الصحابة) الكرام الذين هم نَقَلَةُ القرآن والسنةِ الشريفةِ(11)، ويخرج منها كل من أتى ببدعةٍ كفريةٍ كالجهمية.

ومن دخل ضمن هذه الدائرة العامة من أهل الفرق كلِّها على اختلاف نسبة قربهم أو بعدهم عن الحق فإنه ليس من أهل السلامة والنجاة، إلا فرقةً واحدة هي الناجية، والباقون هالكون يستحقون النار، كما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الفِرَق المشهور الذي ذكرناه آنفًا، قال: "كلها في النار إلا واحدة".

(الثانية): أضيق من التي قبلها، وهي الدائرة المخصوصُ أهلُها بالسلامةِ والنجاةِ، وإصابةِ الحق، وهؤلاء هم أهل المنهج الواحد، والعقيدة الواحدة التي لم يختلفوا في شيء من مسائلها، واقتدوا فيها بالصحابة واتبعوهم فيما كانوا عليه، وهو الذي كان عليه نبيهم صلى الله عليه وسلم، وتمسكوا بالسنن الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم في العقائد والعبادات الباطنة والظاهرة، ولم يَشُوبُوها ببدع أهل الأهواء وأهل الكلام في أبواب العلم والاعتقادات ولم يخرجوا عنها في باب العمل والإرادات، وأثبتوا الصفات لله تعالى، وقالوا: القرآن كلام الله غير مخلوق وأن الله يُرَى في الآخرة، وأثبتوا القدر، وأثبتوا خلافة الثلاثة، ورتبوا الأربعة في الإمامة والتفضيل على ما كان عليه سلف الأمة: أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي رضي الله عنهم أجمعين، ووقروا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكفُّوا ألسنتهم عما شجر بينهم، وغير ذلك من الأمور والمسائل المعروفة عند أهل السنة والجماعة(12).

هؤلاء هم الذين يصدق عليه بحقِّ أنهم الفرقةُ الناجيةُ من أهل السنة والجماعة: ويدخل في دائرتهم أكثرُ أهلِ الحديثِ في القرون الثلاثةِ المُفَضَّلَةِ، وكثيرٌ من الفقهاءِ وعلى رأسهم الأئمة الأربعة، أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، على ما رَوَى عقيدتَهُم الأثباتُ من أصحابهم وأتباعهم؛ فإنهم على منهج واحدٍ وعقيدةٍ واحدةٍ، وفقهٍ متقاربٍ مُتَّحدٍ في الأصول والمصادر.

مجملُ القول في وصف منهج هذه الفرقة الناجية أنه يُمثِّل الإسلامَ المُنزَّل على نبينا صلى الله عليه وسلم الذي تلقَّاه منه سلفُ هذه الأمة ورعيلُهَا الأولُ (الصحابةُ الكرام) غضًّا كما أُنزل، صافيًا من الشوائب(13).

هذه (الجماعة) أو (الفرقة الناجية) بمنهجها هذا موجودة في كل زمان، إلى أن يقاتل آخرُهم الدجالَ، ولكن لا يلزم أن تجتمع دائمًا في مكان واحد أو كيان واحد، ففي بعض الأزمنة المزدهرة كانت (الخلافة الإسلامية) قائمةً فهي الكيان السياسي الذي يجتمعون في ظله، ويلتفون حوله، ولكن في أزمنة أخرى حيث لا تكون هناك خلافة وحيث التشتت السياسي تكون هذه الفرقة الناجية موزعةً في أماكن مختلفة، وطوائف متنوعة، يجمع بينهم (الجماعةُ الفكريةُ) أي المنهجُ والعقيدةُ، فكل من التزم بهما فهو من الفرقة الناجية،  من (أهلِ السنة والجماعة).

إن معرفةَ (الجماعة) أو (الفرقة الناجية) المنصورة على الحق الموجودة بمنهجها وعقيدتها في كل زمان إلى قيام الساعة، والانخراط في صفوفها لا شك أنه من أعظم أهداف المسلم وأهم المهمات التي تشغل قلبه، بل هي أهم ما يبحث عنه كل إنسان يريد النجاة والسعادة وطمأنينة النفس بالهداية.

وتزداد أهمية ذلك مع تكاثر السبل اليوم وتفاقم أمر الفرق، كأنه لم تكف تلك التركة الثقيلة المتراكمة من النحل والفرق المنحرفة حتى جاء هذا العصر بإضافات أكثر خطرًا وأعظم شرًّا(14).

لقد عُني النبي صلى الله عليه وسلم عناية عظيمة بأمر هذا الاختلاف وبتحذير أمته من الفِرَق المنحرفة، وبحَثِّهم على معرفة السبيل الصحيحة والتمسك بها:

عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: كنا جلوسًا عند النبي صلى الله عليه وسلم، فخط خطًّا هكذا أمامه، فقال: "هذا سبيل الله عز وجل" ، وخط خطًّا عن يمينه وخط خطًّا عن شماله وقال: "هذه سبل الشيطان" ثم وضع يده في الخط الأوسط ثم تلا هذه الآية:

 (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)(15).

لكن مما يهوِّن الأمر على السالك أنَّ المنهجَ واضح، ومعالِمَهُ ظاهرةٌ، وأنوارَهُ ساطعةٌ، وشَمْسَه مشرقةٌ، فإن عَمِيَ عن رؤيتها أولوا الأبصار فإنه يراها أهل البصائر..

عن العرباض بن سارية رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد تركتكم على مثل البيضاء ليلُها كنهارها لا يزيغ بعدي عنها إلا هالك"(16).

وقال معاذ بن جبـل رضـي الله عنـه: "تَلـقَّ الحـقَّ إذا سـمعتـه فإن على الحق نورًا"(17).


 



(1)  رواه اللالكائي في اعتقادِ أهل السنة والجماعة 1/71

وروي مرفوعًا عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

انظر الدر المنثور عند تفسير هذه الآية 2/63 [من طبعة إيران]، وتفسير ابن كثير 1/407 [طبعة عبد الشكور فدا بمكة /1384هـ].

(2)  رواه اللالكائي في اعتقادِ أهل السنة والجماعة 1/71.

(3)  أخرجه البخاري في صحيحه في الاعتصام بالسنة 4/215، ومسلم في صحيحه في الإمارة، انظر النووي على مسلم 13/65، وكل هذه الألفاظ في الصحيح.

(4)  أبو داود في سننه، انظر معالم السنن 7/3، 4.

(5)  المصدر السابق 7/4.

(6)  الترمذي في سننه؛ الحديث (2641).

(7)  اللالكائي في أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 1/102-105.

(8)  البخاري في صحيحه في الاعتصام بالسنة 4/215.

(9)  النووي على مسلم 13/66.

(10) النووي على مسلم 13/66.

(11) انظر منهاج السنة النبوية لابن تيمية 1/204.

(12) راجع: الفصل في الملل والنحل لابن حزم 2/113 ومنهاج السنة النبوية لابن تيمية 1/204  وغاية الأماني في الرد على النبهاني للألوسي 1/389.

(13) نقول هذا لأنه حدثت بعد ذلك حوادث وانفتقَتْ فتنٌ كَدَّرَتْ بهجةَ ذلك المنهج النقيِّ في نفوس الأمة، ومن أعظم تلك الحوادث نشوءُ الفرق والأهواء التي كان أوَّلُهَا: (القدريةُ، والروافض، والخوارج، والمرجئة) فهؤلاء هم أصولُ البدع والأهواء، ثم تفاقَم الأمرُ واتَّسَعَ الخَرْقُ زمَنَ المأمون العباسي المتوفي سنة (218 هـ) حيث فَتَحَتْ حركةُ الترجمة الباب أمام أساطير المجوس والهند، وفلسفات الرومان واليونان، فصار لذلك أبلغ الأثر في تكدير ذلك النقاء الذي كان يميز الفكر الإسلامي في القرن الأول، فاختلطت فلسفات الهند وفارس والروم بعقيدة الإسلام وأفسدت المنهج، ونَشَأَ عِلْمُ الكلامِ الذي ظهر أثره في سائر العلوم الإسلامية.

ولذلك أصبح من الضروريات الكبرى تمييز المنهج والعقيدة والشريعة من كل هذه الشوائب حتى يدين المُسْلِمُ بما أُنزل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم صافيًا نقيًا، فهو طريق النجاة، وما سواه من السبل لا ينجو بها المكلف.

(14) والأعجب من أمر الفرق كثرة الاجتهادات المتضاربة التي تنتسب إلى (أهل السنة والجماعة) في مسائل لا تقبل الاجتهاد، ولعل من أسباب ذلك تصدي كل من هب ودب للتأصيل والتنظير بغير فقه ولا بصيرة.

(15) الأنعام: 153، والحديث رواه ابن أبي عاصم في السنة 1/13.

(16) السنة لابن أبي عاصم 1/26.

(17) أبو داود (معالم السنن للخطابي 7/9).


حقوق النشر والطبع © 1429هـ فضيلة الشيخ عبدالعزيز القارئ . جميع الحقوق محفوظه
Copyright © 2008 alqary.net . All rights reserved

1744