عِبَرُ الزَّمَان وَمَـا جَرَى بِهِ الحَدَثَانِ
السيرة الذاتية للأستاذ الدكتور عبد العزيز القارئ
(بِقَلَمِهِ)
الأصول
في أوائل القرن الرابع عشر سنة (1300) هـ، أو قبلها بقليل، كان الشاب عبد الرحيم ابن المُلاَ محمد عظيم القارئُ الخُوقَنْدِيُّ المدنيُّ، يجلس على عادة القراء في ذلك الزمان المبارك في دكـة القُرَّاء شماليَّ الحجرة النبوية بالمسجد النبوي الشريف؛ وهي الدكة التي تقع شماليَّ دكـةِ التَّهَجُّد، بينهما فسحةٌ تؤدي إلى باب جبريل، وخلفها من الشمال بابُ النساء؛ اعتَادَ قراءُ المسجد النبوي الجلوسَ هناك ما بين المغرب والعشاء، ومن كانت نوبته يرفع صوتَهُ ويُرتِّل القرآنَ، وكان مِمَّنْ يُرتِّلُ في هذه الدكةِ حينذاك الشيخُ حسن بن إبراهيم الشاعر شيخُ القراء بالمسـجد النبوي، وإبراهيم سمَّان شيخُ المؤذنين، وغيرهما..
في ذلك اليوم كانت نوبة الشاب القارئ عبد الرحيم الخُوقَنْدِي؛ فكان يصدح بالقرآن؛ ومرَّت امرأةٌ "مَرْغِلاَنِيَّةٌ"() من سكان المدينة المنورة مع ابنها "محمد أمين حَاجِّي المَرْغِلاَنِي"، وكان "قُومَنْدَانًا" بالجيش التركي، فسمعا ذلك الترتيل الجميل؛ فوقفا يستمعان؛ ثم طلبت تلك المرأةُ الجليلةُ من ابنها أن يتفق مع هذا القارئ الشاب ليختم لهم ختمةً في دارهم بـ"الدَّرْوِيشِيَّةِ"؛ وتمَّ ذلك؛ وكانت هديـة تلك المرأة النبيلة لهذا القارئ الشاب أنْ زَوَّجَتْه ابنَتَهَا.
ذلك القارئُ الشاب هو جدُّنَا، وعروسُهُ المَرْغِلاَنِيَّةُ جدَّتُنا.

دكـة القراء بالمسـجد النبوي الشريف وهي المعروفة اليوم بدكة الأغوات
وهذه العادة الجميلة وهي ختم القرآن في البيوت كانت معروفة في ذلك الزمان، ولها أصل في السنة النبوية().
ورُزِقَ الشيخ الشيخُ عبد الرحيم من هذه الزوجة أربعةً من الأبناء: أكبرُهُم عبدُ الله، يليه حبيبُ الله، يليه فَتْحُ الله – الذي تسمَّى بعد ذلك بـ"عبد الفتاح" - وهو والدُنَا، وأصغرُهُم نصرُ الله..
ومن عجائـب المقادير أن أوَّلَهم رحـيلاً من الدنيا أصغرُهُم "نصرُ الله"؛ تُوفي شابًا عَزَبًا يعاني وطأةَ الغربـة وحيدًا في "كراتشـي" بالهند؛ ثم تلاه "فتح الله" أو عبد الفتاح – والدنا -؛ حيـث توفي بالمدينـة المنورة في صـفر من سنـة (1385) هـ، وبعده عمُّنَا حبيبُ الله؛ لما سمع بوفاة أخيه "عبدِ الفتاح" اشْتَرَى كفَنَه واعتزلَ الناسَ، وقَبَعَ في غرفةٍ من داره ينتظر الموتَ وهو يقول: أنا التالي بعد أخي. وكان ذلك فتوفي سنة (1389) هـ بمكة المكرمة، وبعده ببضع سنين توفي الأخ الأكبر عَمُّنَا "عبدُ الله" بأفغانستان، تغمدهم الله بواسع رحمته.
نَشَأَ الشيخُ "عبدُ الرحيم الخوقنديُّ" بالمدينة المنورة منذ نعومة أظفاره ويبدو أنه وُلِدَ بها، وقد تَلَقَّى تعليمَه بالمسجد النبوي؛ ومن شيوخه الشيخ "يس بن أحمد الخِيَاريُّ" المُتوفَّى سنة (1344) هـ، المدفونُ بـ"الفُرَيْشِ" قريةٍ على طريقِ الحاجِّ بين المدينة ويَنْبُع؛ قَرَأَ عليه القرآنَ، وكان الشيخ "يس" شيخًا للقراء بالمسجد النبوي حتى قدوم الشيخ "حسن الشاعر" عام 1300 هـ؛ حيث تنازل له الشيخ "يس" عن المشيخة ورحل إلى مصر للدراسة بالأزهر.
وفي سنة (1320) هـ قدم من بلاد ما وراء النهر رجل من أعيان "خُوقَنْد" لقبه "جَرْشُوَان"؛ وأعطى الشيخَ "عبدَ الرحيم" من المال ما مَكَّنَهُ من افتتاح مدرسةٍ بـ"الدَّرْوِيشِيَّةِ" أوقفها على تحفيظِ القرآن، وعلى أهلِ القرآن من مدينة "خُوقَنْد" وبقيةِ مدنِ ما وراء النهر "تركستان".
وأصبحـت هذه المدرسـةُ بعد ذلك مركزًا لنشاطات المجاورين من تلك الديار؛ أفْرَاحِهِم وأتْرَاحِهِم، ومَوَالِدِهِم، وحفلاتِهِم لخَتْمِ القرآنِ، وتُقام يها صلاةُ المدينة المنورة عام 1325 هـ من الجهة الشمالية الباب الشامي
التراويح في رمضان؛ وعندي تسجيل لختم القرآن بالمدرسة، في رمضان من عام (1386) هـ؛ بصوتِ شيخِ المدرسةِ الشيخ "جَنَاب عبدِ القادر الخُوقَنْديِّ" رحمه الله؛ ثم قَرَأَ دعاءَ الختم بعد الصلاة الشيخُ "حسن الشاعر" رحمه الله؛ وذلك على المذهب الحنفي الذي يجعل دعاءَ الختم خارجَ الصلاة..
وكان بعضُ العلماء يَفِدُونَ على المدرسةِ من أنحاء العالم الإسلامي وينزلون ضيوفًا عليها؛ أدركْتُ منهم العلاَمَةَ المُحدِّثَ الدُّيُوبَنْدِيَّ الشيخَ "محمد يوسف البَنُّورِيَّ" رحمه الله ().
الرحلةُ إلَى بلادِ مَا وَرَاءَ النَّهْر:
سنة (1321) هـ سافر الشيخ "عبد الرحيم الخوقندي" إلى "ما وراء النهر" برفقةِ الشيخِ "حسنِ الشاعر" شيخِ القراء بالمسجد النبوي، واصطحب الشيخُ "عبدُ الرحيم" معه زوجتَه وابنَه "عبدَ الله" الذي وُلِدَ بـ"الدَّرْوِيشِيَّةِ" بالمدينة المنورةِ، وشقيقَ زوجته "محمد أمين حَاجِّي المَرْغِلاَنِي" القُومَنْدَانَ بالجيش التركي؛ ويبدو أن هدف الشيخ "عبد الرحيم" من هذه الرحلة كان افتتاحَ مدارسَ لتحفيظِ القرآنِ بتلك الديار؛ ووجودُ شـيخ القراء بالمسجد النبوي معه في رحلته إلى بلاد ما وراء النهر سيكون له أبلغُ الأثر في نفوس المسلمين هنـاك؛ وقد كان ذلك؛ فقد استقبَلَ الناسُ في "أُوزْبكِسْتَان" الشيخ "حسنَ الشاعرَ" استقبالَ الملوكِ، وعظَّمُوه أيَّمَا تعظيم؛ وكانوا - كما رَوَى لي والدي "الشيخ عبد الفتاح القارئ" كلما أَطَلَّ عليهم الشيخُ حسن في كل مكان ذهب إليه تنهمر دموعُ الناس شوقًا إلى المدينة المنورة. مكَثَ الشيخُ "حسن الشاعر" في تلك الديار بضعةَ أشهر؛ يتجول مع زميله وصديقه الشيخ "عبد الرحيم" في حواضرها؛ ثم عاد إلى المدينة المنورة؛ وبقِيَ الشيخُ "عبدُ الرحيم" لِيُكَمِّل مهمَّته؛ فافتتح مدرسةً في "مَرْغِلاَن" بلدةِ عروسِهِ المرغلانية، وافتتح مدارسَ أخرى في بقية المدن والحواضر، منها مدرسةٌ في مسقط رأس آبائه مدينة "خُوقَنْد" بَنَى مدرسةً ومسجدًا

مسجد سلطان مراد بك بمدينة خوقند
في "دِيريزْلِيكْ مَحَلَّه" وكان يباشرُ التدريسَ فيها، ودَرَسَ عليه مئاتُ الطلاب من شباب "خُوقَنْد" ومن غيرهم مِمَّنْ وَفَدَ عليها يبتغي طلبَ العلم وقراءةَ القرآن على هذا الشيخ العربي؛ فقد اشتُهر الشيخُ "عبدُ الرحيم" في تلك الديار بذلك فكانوا يُسَمُّونَهُ "عَرَبْ دَامْلاَ"؛ لِقدومِهِ عليهم من ديار العرب؛ من الحرمين الشريفين؛ ولِفَصَاحَتِهِ في قراءةِ القرآنِ..
ومِمَّنْ قَرَأَ عليه القرآنَ في مدرستِهِ هذه الشيخُ "محمد أعظم الحسيني" من أهل خوقند؛ وهو جَدُّنَا من الأُمِّ، وينتسبُ إلى آلِ البيتِ.
وُلِدَ للشيخ "عبد الرحيم" أثناءَ وجوده في "خُوقَنْد" ثلاثةٌ من أولاده: "حبيـبُ الله" وُلِدَ عامَ (1326) هـ، و"فَتْـحُ الله" أو عبدُ الفتاح وهو والدُنَا وُلِدَ عامَ (1329) هـ، ثم "نَصْرُ الله" وُلِدَ بعدَ "فتحِ الله" بسنتين أو ثلاث..
ثم تُوفي الشيخُ "عبدُ الرحيم" سنةَ (1348) هـ تقريبًا، ودُفِنَ في "خُوقَنْد"، وبعده بستةِ أشهر لحقَتْ به زوجتُه المُحِبَّةُ، فرحمهما الله وأسكنهما فسيحَ الجنان.
[ في الحلقة القادمة: قيام الثورة "البولشفية" ]
وأنا كنْتُ يومَهَا في التاسعةِ من عمري، لكنني اليوم أتدبَّرُ الآيتين اللَّتَيْنِ رتَّلَهُمَا والدُنا رحمه الله وأعرفُ المغزَى من ذلك؛ إنه أراد تحذيرَ المجاورين بالحرمين من المهاجرين التركستانيين من نوايا هذا الزعيم العلمانيِّ القوميِّ "قيوم خان" الذي جاء يتلاعَبُ بعواطِفِهِم، ويُمَنِّيهِم بأحلامٍ جميلةٍ عن تحرير "تركستان" وإقامةِ حكومةٍ وطنيةٍ مؤقتةٍ، واتخَذَ خطواتٍ تزيد الارتيابَ حولَ حقيقةِ نواياه، عَيَّنَ عددًا من التركستانيين المجاورين بالحرمين في مناصب عليا في تلك الحكومـةِ الوهميةِ ن منهم الشيخُ "السيد محمود الطرازي" عَيَّنَهُ مُفْتِيًا لعموم "تركستان" وعَيَّنَ شابًّا سمرقنديًّا كان له دكانٌ في آخر شارع "العينية" واليًا على "سَمَرْقَنْد" وغيرَه واليًا على "خُوقَنْد"، وآخرَ وزيرًا للمالية، وهكذا، واستطاع بذلك أن يجمع "أربعةَ ملايين" ريال، أُودِعَتْ بالبنك الهولندي..
|