دَعْوَتُنَا : لأَهْلِ القبلةِ جميعًا إلى التزامِ منهجِ السلفِ، والائْتِلاَفِ في إطارِ أهلِ السنَّةِ والجماعَةِ، والاجتماعِ على الكلمَةِ "كلمَةِ التوحيدِ" وإصلاحِ المجتمعاتِ على ضوءِ ذلك، وتجديدِ الدينِ، وحياةِ المسلمين؛ حتى ينهضوا من جديدٍ أمةً أفضلَ؛ تأمر بالمعروفِ وتنهَى عن المنكرِ وتؤمنُ باللهِ، وتقومُ بواجِبِ الدعوةِ والجهادِ.
: من فقه الدعوة

  الشعبية  
 

الشـعبيـة

يتفرع من شرط (الإخلاص) في الدعوة مسألة دقيقة وخفية؛ هي مسألة (الشَّعْبِيَّة)؛ ومعناها: حبُّ الجمهور، وإقبالُهُم على الداعية وقبولُهُم لكلامِهِ ودروسِهِ ومحاضراتِهِ، وإذا حضر قاموا له تبجيلاً واحترامًا، وإذا جلس تصدَّرَ المجلسَ.

من الطبيعة البشرية أن يحب الإنسان ذلك؛ لكن هذه الشهوة الخفية إذا سيطرت على قلب الداعية أَفْشَلَتْ دعوتَهُ، وإذا طرأَتْ على نَفْسِ العالِمِ أفسَدَتْ عِلْمَهُ.

عن جابر t قال: قال رسول الله r: "لا تَعَلَّمُوا العلمَ لِتُبَاهُوا به العلماءَ ولا لِتُمَارُوا به السفهاءَ ولا لِتَحْتَازُوا به المجالسَ فمن فعل ذلك فالنارَ النارَ" رواه ابن حبان.

مباهاة العلماء، ومجاراة السفهاء، والتصدُّرُ في المجالس أَشَدُّ منها الحرصُ على المحافظة على (الشعبية)؛ فإذا كانت مكانةُ العالِمِ بُنِيت على اعتباره رمزًا من رموز "السلفية" مثلاً فإنه قد يغير ما اتضح له من الحق بالدليل والبرهان إذا كان يخالف السائد عند "السلفيين"، وهذا يُؤَثِّر في تربية العالِمِ لتلاميذه:

أَحَدُ فقهاءِ الحنابلة السلفيين المعاصرين فَتَح حلقةَ درسٍ في الفقه، وأخذ يُدرِّس متنَ "زاد المستقنع" فضاق صدر الطلبة بذلك؛ لأن الفقه صعب ولا يقدر عليه إلا خواصُّ طلبةِ العلم، وأحسَّ الشيخُ بإعراضِ طلبتِهِ عن درسه فحَوَّلَ الدرسَ إلى شرح "سنن أبي داود" فأقبلوا عليه؛ فقلْتُ له: أليس متنُ "الزاد" أنسبَ لهؤلاء الطلبة. فقال: نعم هو الأنسب ولكنَّ الطلبة في هذا الزمان يريدون "حدثنا" و"أخبرنا". نعم هذا هو داء "الشعبية"، فهذا العالِمُ بدلاً من أن يُربِّي تلاميذَه على ما يناسبهم من العلم خضع لميولهم وأهوائهم؛ وبذلك تولَّدَ في زماننا هذا في ميدان العلم والدعوة ما أُسمِّيه بـ "دكتاتورية الجمهور"؛ فإذا كان الجمهور هو الذي يُمْلِي على العالِم والداعيةِ آراءَهُ ومواقِفَهُ فتلك والله تربيةٌ فاسدةٌ، ودعوةٌ فاشلةٌ.

عند ما ترجَّحَ لَدَيَّ بالأدلة من الكتاب والسنة وأقوالِ السلف وجوبُ المحافظة على الآثار النبوية ومشروعيةُ التبرك بها بقيتُ ستَّ سنين مترددًا في نشر ذلك؛ لأنه مُصَادِمٌ لمألوف جمهور طلبة العلم؛ وأخيرًا قررتُ نشرَ ما ترجَّحَ عندي، وأنا مُوقِنٌ بأنني سأفقد كثيرًا من "شعبيتي"، حتى إنَّ أحدً من أفاضل هؤلاء - أعني جمهور طلبةِ العلم السلفيين - صَعَدَ على منبر الجمعة ونَعَى رمزًا من رموز "السلفية" اعتَبَرَ أنه انتهى ولا حول ولا قوة إلا بالله، بل وبكى حزنًا وأسفًا..

هذا الناعِي لي دون أن يُسَمِّينِي جَارٌ لِي؛ ومع ذلك لم يفكر في أن يجتمع بي ويناقشني كما يقتضيه أدبُ السلفِ.

المحدِّث المشهور الشيخ محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله كان من أَجَلِّ رموز المدرسة السلفية في عصرنا، وأكثرُ ما كان يعجبني في شخصيته القياديةِ العلميةِ: حريةُ الرأي، وشجاعتُهُ في العلم، وحرصُهُ على تربية جمهوره على ما يعتقد أنه الحق بصرف النظر عن أهوائهم ومألوفاتهم؛ ولذلك صادَمَ جمهورَ المشايخ في تكفيرهم لتارك الصلاة كسلاً وتهاونًا، وألَّفَ رسالة في الرد عليهم؛ اعتبر فيها هذا الرأيَ من آراء الخوارج؛ لأنه تكفيرٌ بالكبيرة..

وسَاءَهُمْ ذلك وغضبوا فمنعوا الرسالةَ من دخول المملكة؛ وهذه حيلةُ المُسْتبدِّ: التكتُّمُ على الرأي المُخالِف.

اختلفتُ يومًا مع رفيقٍ لي في الدراسة في زكاة الفطر: هل يخرجها من الأصناف أم يجوز إخراجها نقدًا؛ فقال هو بوجوب إخراجها من الأصناف المذكورة في الحديث، وقلتُ أنا بجواز إخراجها نقدًا، وقرَّرْنَا الاحتكامَ إلى الشيخ الألباني، وكان وقتَهَا في المدينة النبوية، وذهبْنَا إليه، وسبقني رفيقي بالكلام وقال: - تعلمون فضيلتكم أن النبي r حدَّدَ في الحديث أصنافًا على من يريد أداءَ زكاةِ الفطرِ أَنْ يُخْرِجَهَا منها، وأنَّ الحنفية خالفوا الحديثَ وأجازوا إخراجَ القيمةِ، وإنَّ زميلي عبد العزيز يتبنَّى هذا الرأيَ فأوَدُّ أنْ تُبَيِّنُوا له بطلانَهُ.

- قال الشيخ الألباني متبسمًا: ولكني أرى هذا الرأيَ.

وصُعِقَ رفيقي وارتبَكَ، وكَثُرَ لَغَطُهُ وغَلَطُهُ؛ فقال الشيخ بكل هدوء:

- الذي ترجَّحَ لَدَيَّ في زكاة الفطر أنَّ المُزَكِّي يُخْرِجُ الأصلحَ والأنفعَ للفقير؛ فإن كانت الأصناف هي الأنفعَ له أخرَجَ من الأصناف، وإن كانت القيمةُ هي الأنفعَ له أخرَجَ القيمةَ، دلَّ على ذلك قولُهُ r في زكاة الفطر: "أَغْنُوهُمْ ذلكَ اليومَ عن السؤال" فإغناؤهم عن الاحتياج إلى السؤال يومَ العيد مقصَدٌ شرعي؛ فبأيِّ شيءٍ حصَلَ الإِغْنَاءُ فهو المطلوب.

وكان درسًا مهمًا في وجوب التأني في العلم، والنظر في مجموع الأدلة وليس طرفًا منها، وظهرت استقلالية الشيخ في اجتهاداته وعدم تأثره بما هو سائد في البلد.

 


حقوق النشر والطبع © 1429هـ فضيلة الشيخ عبدالعزيز القارئ . جميع الحقوق محفوظه
Copyright © 2008 alqary.net . All rights reserved

26145