الخطط والبرامج
لا بد للدعوة من "استراتيجية"؛ أي خطةٍ عامةٍ ثابتةٍ، ولا بد من خطة "تكتيكية"؛ أي برنامجٍ مَرْحَلِيٍّ قابلٍ للتغيير، وأظن أن معظم الحركات الإسلامية المعاصرة تفتقر إلى ذلك؛ إلا ما سنذكره عن علماء القارة الهندية.. أي: الديوبنديون، وجماعةِ التبليغ؛ فإنَّ كلاً من هذين الجناحين وضع لنفسه خطةً عامةً "استراتيجية" وحافَظَ عليها؛ فالديوبنديون اعتمدوا نَشْرَ العلم مع التربية، وأنشأوا لذلك المدارسَ، وجماعةُ التبليغ بعكسهم؛ لم يُعوِّلوا كثيرًا على نَشْرِ العلم، وبدلاً من ذلك اعتمدوا الوَعْظَ والخروجَ للدعوة.
ومع اختلاف "الاستراتيجيتين" فإنهما سَجَّلاَ نجاحًا باهرًا، وحقَّق كلٌّ منهما انتشارًا كبيرًا؛ ليس لصحة الخطة أو عدم صحتها؛ ولكن لأنَّ كلاً من الحركتين حافَظَ على "استراتيجيته" بدَأَبٍ بالغٍ، وسخَّرَ لتنفيذها البرامج الناجحة.
ولا أملك تأجيل القول بأن خطة "الديوبنديين" هي الصواب؛ فإنهم طبقوا منهجَ النبي صلى الله عليه وسلم ومنهجَ أصحابه؛ الذين كانوا يقولون: "كنا إذا نزلَتْ عشرُ آياتٍ لم نجاوزهنَّ حتى نعلمَ ما فيهن من العلمِ والعملِ؛ فتلقَّيْنَا القرآنَ والعلمَ والعملَ معًا".
وكان الصحابة رضي الله عنهم يحرصون على حلقات العلم التي كان يعقدها النبيُّ صلى الله عليه وسلم في مسجده، حتى كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يتناوب مع جارٍ له أنصاريٍ حضورَ هذا الدرس إذا كان بحائطه بالعوالي فمن حضر منهما يخبر صاحبَه بما سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وكان أيُّ أحدٍ من العرب يُسْلِمُ يعلِّمُهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم القرآنَ والشرائعَ، وكان الأعرابي يأتي إليه فيقول عَلِّمْني من القرآن؛ فيُعلِّمه النبيُّ صلى الله عليه وسلم..
وهذا له أمثلة كثيرة وردت بها أحاديث في الصحيحين وفي السنن وغيرها.
ولهذا قال العلماء: العِلْمُ قبل القول والعمل.
فالعلم والتعليم هما "الاستراتيجية" الكبرى للدعوة؛ وبدون ذلك تصبح الدعوة فارغةً من المضمون، مُجَرَّدَةً من السلاح..
بعضُ الحركات الإسلامية في بعض البلاد العربية غَيَّرَتْ دعوتَهَا وأسلوبَهَا بدرجةٍ كبيرةٍ حادَّةٍ، فبعد أن كانوا يعتمدون أسلوبَ العنف باسم الجهاد، فجأة استداروا بزاويةٍ كاملةٍ، وغلَّطُوا أنفسهم، وتركوا ما كانوا يتصورونه جهادًا، وتَحَوَّلُوا إلى المُسَالَمَةِ مع السلطة؛ ربما ليتفرغوا للعلمِ، والعودةُ إلى الصواب ليست مذمومةً، ولكنَّ السؤالَ الذي يفرض نفسَهُ هنا، بأيِّ خطةٍ بدأوا دعوتهم؛ أم لم تكن عندهم خطة أصلاً؟ إنَّ السبَبَ في مثل هذا التخبط هو أنَّ القيادات ليست مؤهلةً للقيادة، مجموعاتٌ من الهواة محدودي الثقافة، وبعضُ هذه الحركات كان يقودُها عقيدٌ سابق في المخابرات.
أيُّ دعوةٍ لا يقودها العلماءُ الربانيون فهي فاشلة سلفًا؛ فمن شروط القيادة: العدالة، والعلم.
من أمثلة غياب "الاستراتيجية" موقفُ كثيرٍ من الحركات الإسلامية، وكثيرٍ من العلماء؛ من الجهاد!!
بعض علماء الأمة ظلُّوا طوالَ نصف قرنٍ أو أكثر يتحدثون عن الجهاد، ويشحذون همَمَ الشباب للجهاد؛ كأنَّ نفيرَ الجهاد سينطلق اليومَ أو غدًا؛ فلما لم ينطلق هذا النفير انطلق الشباب بعد أن نَفَدَ صبرُهم، وانفجرت الشحنات التي زُوِّدُوا بها بلا لجام، وفي ذلك من الخطر الشديد ما لا أحتاج إلى بيانه؛ فالواقع يشهد به.
هل كان من الحكمة إعطاء الشباب هذه الجرعةَ الزائدةَ من التجييش للجهاد؛ دون أن تكون هناك راية يقاتلون تحتها، ودون أن تكون الظروف مواتيةً، أو حتى مقاربةً، بل هي معاديةٌ؛ أو مُعَوِّقةٌ؟
ألِحُّ دائمًا وأكرِّرُ في مختلَفِ المناسبات أننا الآن في مرحلة الإعداد للجهاد، وليس في مرحلة إشعالِ الجهاد..
ومن أَنْشَبَ القتالَ مع الأعداء في الظروف الراهنة فإنه قد جَنَى على الأمة؛ لأنها غيرُ مستعدةٍ ولا مُهَيَّأَةٍ لذلك؛ فتكون النتيجة الفشل؛ بسبب الضربات التي ستتلقاها من أعداءَ أقوياءَ متربصين.
وهذا الكلام إنما هو عن جهاد الطلب، أما جهاد الدَّفْع فمسألةٌ أخرى؛ وهو قَامَ في أفغانستان عند الهجوم السوفيتي سابقًا؛ والهجوم الأمريكي لاحقًا؛ فقتالُ الأفغان في كلتا المرحلتين دفاع عن النفس؛ وهو قائم الآن في العراق، وما زال قائمًا في فلسطين، كلُّ هذا القتال في هذه المواقع جهادٌ مشروعٌ للدفاع عن النفس.
لا نتحدث عن جهاد الدفع، إنما نقصد جهاد البدء والطلب؛ لأنه من الأعمال السلطانية فلا يقوم إلا تحت راية إمام شرعي متبوع.
سمعتُ من الداعية الكبير الأستاذ محمد قطب حفظه الله: أن الأستاذ الإمام حسن البنا رحمه الله لما دخلت جيوشُ الدول العربيةِ فلسطين في حرب (48) هاجَ شبابُ الإخوان وطالبوه بالاشتراك في الحرب؛ وكان رأيه عدم الاشتراك فيها لسببين:
أولهما: أن هذه الحرب مؤامرة مطبوخة سلفًا أهدافها غير سليمة.
ثانيهما: أن جماعة الإخوان لا تزال في مرحلة النشأة وعودها طري فلا يحب لَفْتَ أنظار القوى العالمية المعادية لها..
ولم يقتنع الشباب بهذا التحليل السياسي السليم، وقالوا له: فأين شعاراتنا التي نادينا بها: الجهادُ سبيلُنَا والموتُ في سبيل الله أغلى أمانِينا.
وغلب حماسُ الشباب وفَوَرَانُهُمْ على حكمةِ الإمام ورأيه السديد؛ وكانت النتائج فادحةً؛ وهي معروفة.
عبد العزيز القارئ
في 7/7/1430هـ
|