دَعْوَتُنَا : لأَهْلِ القبلةِ جميعًا إلى التزامِ منهجِ السلفِ، والائْتِلاَفِ في إطارِ أهلِ السنَّةِ والجماعَةِ، والاجتماعِ على الكلمَةِ "كلمَةِ التوحيدِ" وإصلاحِ المجتمعاتِ على ضوءِ ذلك، وتجديدِ الدينِ، وحياةِ المسلمين؛ حتى ينهضوا من جديدٍ أمةً أفضلَ؛ تأمر بالمعروفِ وتنهَى عن المنكرِ وتؤمنُ باللهِ، وتقومُ بواجِبِ الدعوةِ والجهادِ.
: درس الأحد

  شرح كتاب الاعتصام للإمام الشاطبي_12_4_1431هـ  
 
 
 

فصل

فان قيل كيف هذا وقد ثبت في الشريعة ما يدل على تخصيص تلك العمومات وتقييد تلك المطلقات وفرع العلماء منها كثيرا من المسائل واصلوا منها أصولا يحتذي حذوها، على وفق ما ثبت نقله؟ إذ الظواهر تُخَرَّجُ على مقتضى ظهورها بالاجتهاد، وبالحري إن كان ما يستنبط بالاجتهاد مقيسًا على محل التخصيص. فلذلك قسم الناس البدع ولم يقولوا بذمها على الإطلاق.

وحاصل ما ذكروا من ذلك يرجع إلى أوجه:

أحدها: ما في الصحيح من قوله صلى الله عليه وسلم: "من سن سنة حسنه كان له أجرها وأجر من عمل بها لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، ومن سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئا".

وأخرج الترمذي وصححه أن رسول الله صلى لله عليه وسلم قال: "من دل على خير فله مثل أجر فاعله".

وخرج أيضا عن جرير بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سن سنة خير فاتبع عليها فله أجره ومثل أجور من اتبعه غير منقوص من أجورهم شيئًا، ومن سن سنة شر فاتبع عليها كان عليه وزرهم ومثل أوزار من اتبعه غير منقوص من أوزارهم شيئا" حسن صحيح.

فهذه الأحاديث صريحة في أن من سنَّ سنة خير فذلك خير، ودل على أنه فيمن ابتدع. قوله: "من سَنَّ" فنسب الاستنان إلى المكلف دون الشارع ولو كان المراد: "من عمل سنة ثابتة في الشرع" لما قال: "من سَنَّ" ويدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "ما من نفس تقتل ظلمًا إلا كان على ابن آدم كفل من دمها لأنه أول من سنَّ القتل". فسَنَّ هاهنا على حقيقته لأنه اختراع لم يكن قبل معمولا به في الأرض بعد وجود آدم عليه السلام.

فكذلك قوله: "من سن سنة حسنة" أي من اخترعها من نفسه لكن بشرط ان تكون حسنة فله من الأجر ما ذكر، فليس المراد: من عمل سنة ثابتة.

وإنما العبارة عن هذا المعنى أن يقال: من عمل بسنتي أو سنة من سنتي، وما أشبه ذلك. كما خرج الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبلال بن الحارث: "اعلم" قال: ما أعلم يا رسول الله؟ قال: "اعلم يا بلال" قال: ما أعلم يا رسول الله؟ قال: "إنه من أحيا سنة من سنتي قد أميتت بعدي فإن له من الأجر مثل من عمل بها من غير أن ينقص ذلك من أجورهم شيئًا، ومن ابتدع بدعة ضلالة لا ترضى الله ورسوله كان عليه مثل إثم من عمل بها لا ينقص ذلك من آثام الناس شيئًا" حديث حسن.

وعن انس رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا بني إن قدرت أن تصبح وتمسي ليس في قلبك غش لأحد فافعل، ثم قال لي: يا بني وذلك من سنتي، ومن أحيا سنتي فقد أحبني ومن أحبني كان معي في الجنة" حديث حسن.

فقوله: "من أحيا سنة من سنتي قد أميتت بعدي" واضح في العمل بما ثبت أنه سنة، وكذلك قوله: "من أحيا سنتي فقد أحبني" ظاهر في السنن الثابتة، بخلاف قوله: من سنَّ كذا، فإنه ظاهر في الاختراع أولا من غير أن يكون ثابتًا في الس،نة.

وأما قوله لبلال بن الحارث: "ومن ابتدع بدعة ضلالة" فظاهر أن البدعة لا تذم بإطلاق بل بشرط أن تكون ضلالة، وأن تكون لا يرضاها الله ورسوله فاقتضى هذا كله أن البدعة إذا لم تكن كذلك لم يلحقها ذم، ولا تبع صاحبها وزر، فعادت إلى أنها سنة حسنة ودخلت تحت الوعد بالأجر.

والثاني: أن السلف الصالح رضي الله عنهم وأعلاهم الصحابة قد عملوا بما لم يأت به كتاب ولا سنة مما رأوه حسنا وأجمعوا عليه، ولا تجتمع أمة محمد صلى الله عليه وسلم على ضلالة، وإنما يجتمعون على هذا وما هو حسن.

فقد اجمعوا على جمع القرآن وكتبه في المصاحف، وعلى جمع الناس على المصاحف العثمانية، واطراح ما سوى ذلك من القراءات التي كانت مستعملة في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكن في ذلك نص ولا حظر، ثم اقتفى الناس أثرهم في ذلك الرأي الحسن، فجمعوا العلم ودونوه وكتبوه، ومن سُبَّاقِهم في ذلك مالك بن انس رضي الله عنه، وقد كان من أشدهم اتباعا وأبعدهم من الابتداع.

هذا وان كان قد نقل عنهم كراهية كتب العلم من الحديث وغيره، فإنما هو محمول إما على الخوف من الاتكال على الكتب استغناء به عن الحفظ والتحصيل، وإما على ما كان رأيًا دون ما كان نقلاً من كتاب أو سنة.

ثم اتفق الناس بعد ذلك على تدوين الجميع لما ضعف الأمر، وقلَّ المجتهدون في التحصيل، فخافوا على الدين جملة.

قال اللخمي لما ذكر كلام مالك وغيره في كراهية بيع كتب العلم والإجارة على تعليمه، وخرج عليه الإجارة على كتبه، وحكى الخلاف وقال: لا أرى اليوم أن يختلف في ذلك أنه جائز، لأن حفظ الناس وأفهامهم قد نقصت، وقد كان كثير ممن تقدم ليست لهم كتب.

قال مالك: ولم يكن للقاسم ولا لسعيد كتب، وما كنت أقرأ على أحد يكتب في هذه الألواح، ولقد قلت لابن شهاب: أكنت تكتب العلم؟ فقال: لا. فقلت: أكنت تحب أن يعيدوا عليك الحديث؟ فقال: لا. فهذا كان شأن الناس، فلو سار الناس اليوم سيرتهم لضاع العلم ولم يكن بينا منه ولو رسمه أو اسمه، وهذا الناس اليوم يقرءون كتبهم، ثم هم في التقصير على ما هم عليها.

وأيضا فإنه لا خلاف عندنا في مسائل الفروع أن القول فيها بالاجتهاد والقياس واجب، وإذا كان كذلك كان إهمال كتابتها وبيعها يؤدي إلى التقصير في الاجتهاد وأن لا يوضع مواضعه؛ لأن في معرفة أقوال المتقدمين والترجيح بين أقاويلهم قوة وزيادة في وضع الاجتهاد مواضعه.

انتهى ما قاله اللخمي، وفي إجازة العمل بما لم يكن عليه من تقدم لأن له وجها صحيحا؛ فكذلك نقول: كل ما كان من المحدثات له وجه صحيح فليس بمذموم، بل هو محمود، وصاحبه الذي سنه ممدوح، فأين ذمها بإطلاق أو على العموم؟

وقد قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور.

فأجاز كما ترى إحداث الأقضية واختراعها على قدر اختراع الفجار للفجور، وإن لم يكن لتلك المحدثات أصل، وقتل الجماعة بالواحد وهو محكي عن عمر وعلي وابن عباس والمغيرة بن شعبة رضي الله عنهم.

وأخذ مالك وأصحابه بقول الميت: دمي عند فلان، ولم يأت له في الموطأ بأصل سماعيّ، وإنما علَّل بأمر مصطلحي، وفي مذهبه من ذلك مسائل كثيرة، فإن كان ذلك جائزًا مع أنه مخترع، فلم لا يجوز مثله وقد اجتمعا في العلة لأن الجميع مصالح معتبرة في الجملة، وإن لم يكن شيء من ذلك جائزا فلم اجتمعوا على جملة منها وفرع غيرهم على بعضها؟ ولا يبقى إلا أن يقال: إنهم يتابعون على ما عمل به هؤلاء دون غيرهم وإن بها اجتمعا في العلة المسوغة للقياس، وعند ذلك يصير الاقتصار تحكمًا، وهو باطل فما أدى إليه، مثله فثبت أن البدع تنقسم.

فالجواب وبالله التوفيق أن نقول:

أما الوجه الأول: فإن قوله صلى الله عليه وسلم: "من سن سنة حسنة" الحديث. ليس المراد به الاختراع البتة، وإلا لزم من ذلك التعارض بين الأدلة القطعية إن زعم مورد السؤال أن ما ذكره من الدليل مقطوع به، فإن زعم أنه مظنون فما تقدم من الدليل على ذم البدع مقطوع به، فيلزم منه التعارض بين القطعي والظني، والاتفاق من المحققين، ولكن فيه بحثًا أو نظرًا من وجهين:

أحدهما: أنه يقال: إنه من قبيل المتعارضين، إذ تقدم أولا أن أدلة الذم تكرر عمومها في أحاديث كثيرة من غير تخصيص، وإذا تعارضت ادلة العموم والتخصيص، لم يقبل بعد ذلك التخصيص.

والثاني: على التنزل لفقد التعارض، فليس المراد بالحديث الاستنان بمعنى الاختراع، وإنما المراد به العمل بما ثبت من السنة النبوية، وذلك لوجهين:

أحدهما: أن السبب الذي جاء لأجله الحديث هو الصدقة المشروعة، بدليل ما في الصحيح من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدر النهار فجاءه قوم حفاة عراة مجتابي النمار أو العباء متقلدي السيوف، عامتهم من مضر بل كلهم من مضر، فتمعر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى بهم من الفاقة، فدخل ثم خرج فأمر بلالا فأذن وأقام، فصلى ثم خطب فقال: {يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة} والآية التي في سورة الحشر: {اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد} تصدق رجل من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع بره، من صاع تمره، حتى قال: "ولو بشق تمرة" قال: فجاءه رجل من الأنصار بصرة كادت كفه تعجز عنها، بل قد عجزت. قال: ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام وثياب، حتى رأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل كأنه مذهبة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شيء".

فتأملوا أين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من سن سنة سيئة؟ تجدوا ذلك فيمن عمل بمقتضى المذكور على أبلغ ما يقدر عليه حتى بتلك الصرة، فانفتح بسببه باب الصدقة على الوجه الأبلغ، فسُرَّ بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قال: "من سن في الإسلام سنة حسنة" الحديث، فدل على أن السنة ها هنا مثل ما فعل ذلك الصحابي، وهو العمل بما ثبت كونه سنة، وأن الحديث مطابق لقوله في الحديث الآخر: "من أحيا سنة من سنتي قد أميتت بعدي - الحديث إلى قوله - ومن ابتدع بدعة ضلالة" فجعل مقابل تلك السنة الابتداع، فظهر أن السنة الحسنة ليست بمبتدعة، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "ومن أحيا سنتي فقد أحبني".

ووجه ذلك في الحديث الأول ظاهر لأنه صلى الله عليه وسلم لما حض على الصدقة أولا ثم جاء ذلك الأنصاري بما جاء به فانثال بعده العطاء إلى الكفاية، فكأنها كانت سنة أيقظها رضي الله تعالى عنه بفعله. فليس معناه من اخترع سنة وابتدعها ولم تكن ثابتة.

ونحو هذا الحديث في رقائق ابن المبارك مما يوضح معناه عن حذيفة رضي الله عنه قال: قام سائل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأل، فسكت القوم. ثم إن رجلا أعطاه فأعطاه القوم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من استن خيرا فاستن به فله أجره ومثل أجور من تبعه غير منتقص من أجورهم شيئًا، ومن استن شرًّا فاستن به فعليه وزره ومثل أوزار من تبعه غير منتقص من أوزارهم شيئًا". فإذًا قوله: "من سن سنة" معناه: من عمل بسنة، لا من اخترع سنة.

والوجه الثاني من وجهي الجواب: أن قوله: "من سنَّ سنّة حسنة ومن سنَّ سنّة سيئة" لا يمكن حمله على الاختراع من أصل، لان كونها حسنة أو سيئة لا يعرف إلا من جهة الشرع، لأن التحسين والتقبيح مختص بالشرع، لا مدخل للعقل فيه وهو مذهب جماعة أهل السنة.

وإنما يقول به المبتدعة، أعني التحسين والتقبيح بالعقل. فلزم أن تكون السنة في الحديث إما حسنة في الشرع وإما قبيحة بالشرع، فلا يصدق إلا على مثل الصدقة المذكورة، وما أشبهها من السنن المشروعة.

وتبقى السنة السيئة منزلة على المعاصي التي ثبت بالشرع كونها معاصي، كالقتل المنبه عليه في حديث ابن آدم حيث قال عليه السلام: "لأنه أول من سنَّ القتل" وعلى البدع لأنه قد ثبت ذمها والنهي عنها بالشرع كما تقدم.

وأما قوله: "من ابتدع بدعة ضلالة" فهو على ظاهره لأن سبب الحديث لم يقيده بشيء فلا بد من حمله على ظاهر اللفظ كالعمومات المبتدأة التي لم تثبت لها أسباب. ويصح أن يحمل على نحو ذلك قوله: "ومن سنَّ سنّة سيئة" أي من اخترعها. وشمل ما كان منها مخترعًا ابتداءً من المعاصي كالقتل من أحد ابني آدم، وما كان مخترعًا بحكم الحال، إذ كانت قبل مهملة متناساة، فأثارها عمل هذا العامل.

فقد عاد الحديث - والحمد لله حجة - على أهل البدع من جهة لفظه، وشرح الأحاديث الأخر له.

وإنما يبقى النظر في قوله: "ومن ابتدع بدعة ضلالة" وان تقييد البدعة بالضلالة يفيد مفهوما، والأمر فيه قريب لان الإضافة فيه لم تفد مفهومًا. وإن قلنا بالمفهوم على رأي طائفة من أهل الأصول، فإن الدليل دل على تعطيله في هذا الموضع كما دل دليل تحريم الربا قليله وكثيره على تعطيل المفهوم في قول الله تعالى: {لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة} ولأن الضلالة لازمة للبدعة باطلاق بالأدلة المتقدمة، فلا مفهوم أيضًا.

والجواب عن الإشكال الثاني: أن جميع ما ذكر فيه من قبيل المصالح المرسلة، لا من قبيل البدعة المحدثة. والمصالح المرسلة قد عمل بمقتضاها السلف الصالح من الصحابة ومن بعدهم. فهي من الأصول الفقهية الثابتة عند أهل الأصول، وان كان فيها خلاف بينهم. ولكن لا يعد ذلك قدحًا على ما نحن فيه.


حقوق النشر والطبع © 1429هـ فضيلة الشيخ عبدالعزيز القارئ . جميع الحقوق محفوظه
Copyright © 2008 alqary.net . All rights reserved

45893