الجرأة على تغيير المشاعر المقدسة
لما أراد أبو جعفر المنصور هَدْمَ الكعبةِ وإعادةَ بنائها على قواعد إبراهيم؛ أي بإدخالِ حِجْرِ إسماعيل، وذلك تنفيذًا لرغبة النبي صلى الله عليه وسلم _ حَسْبَ زعمِهِ _؛ يشير بذلك إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها: "لولا قومُكِ حديثوا عهدٍ بشركٍ لهدمْتُ الكعبةَ ثم أقمتُهَا على قواعِدِ إبراهيم" متفق عليه: استشار الإمامَ مالكَ بن أنس إمامَ دار الهجرة قائلاً: إني أردتُ أن أُنَفِّذَ وصيةَ جدِّي رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فأهدمَ الكعبةَ وأبنيها على قواعد إبراهيم فما تقول يا أبا عبد الله. فقال الإمام مالك رحمه الله: لا تفعلْ يا أمير المؤمنين لا تجعَلْ بيتَ الله ملْعَبَةً للملوك.()
هذا فقه دقيق عميق من إمام دار الهجرة، فإن أهواءَ ذوي الملك والسلطان متقلبةٌ، والزمان متغيِّرٌ، فاليوم مَلِكٌ، وغدًا يتولَّى غيرُهُ؛ وقد يكون خصمَهُ؛ فينقض ما صنَعَ ويهدم ما بَنَى، وقد تحقَّقَ ذلك، ففي سنة (64) هـ لما تَوَلَّى الخلافة عبدُ الله بْنُ الزبير رضي الله عنهما؛ ودانت له الحجاز وسائر الأنحاء إلا الشام: هدَمَ الكعبة وأعاد بناءها على قواعد إبراهيم فأدخل حِجْرَ إسماعيل في البناء، ثم دارت الأيام دورتها وتغيرت الأحوالُ، ورَمَى الحجاجُ الثقفيُّ الكعبةَ بالمنجنيق عامدًا متعمدًا؛ حتى يزيل البناءَ الذي بناه ابن الزبير، وبعد استشهاد ابن الزبير رضي الله عنه ودخولِ الحَجَّاجِ إلى مكة عَمَدَ إلى البيت فأعاد بناءه كما كان قبل ابن الزبير وذلك نكايةً فيه، وحرصًا على عداوته، وإزالةِ آثارِهِ؛ وهذا لَعِبٌ ببيت اللهِ من الحَجَّاج الزنديق..
ولو استمر الأمر على هذه الوتيرة لصارَ البيتُ الحرامُ مَلْعَبَةً للملوك؛ لكن جرى عمَلُ الأمة بعد ذلك على القاعدة التي أسَّسَهَا إمامُ دار الهجرة: وهي إبقاء المشاعر المقدسة على ما كانت، ومَنْعُ الجرأةِ على إحداث أي تغيير فيها.
وعندما بدأ الزحام يتفاقم في الحج، وصار الناس في محنةٍ شديدةٍ عند الطواف، خاصة عندما يصِلُونَ إلى المكان الذي بين مقام إبراهيم وبين الكعبة، فقد كانوا يتساقطون هنالك من شدة الزحام، ويهلك كثير منهم؛ اقتَرَحَ بعضُهُم إعادةَ المقام إلى وضعه الأول أيامَ الخليل إبراهيم؛ وقد كان ملتصقًا بجدار الكعبة، وعُقِدَ مؤتمرٌ عامٌّ لعلماءِ العالَمِ الإسلاميِّ في رابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة، وكان برئاسة ذلك الفقيهِ الحنبليِّ والإمامِ المُحَنَّكِ سماحةِ المفتي الأكبر للديار السعودية آنذاك الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله، وقرَّرَ سماحتُهُ أنه لا يجوز إحداثُ أيِّ تغيير في المقدسات والمشاعر والبيت المعظم مهما كانت المُبرِّرات، ويُبحث عن وسائل أخرى لمعالجة الزحام غيرِ التحريفِ والتبديلِ في المشاعر المقدسة؛ وبهذا استمرَّ العملُ على المبدأ الذي نبَّهَ إليه إمام دار الهجرة.
وفي عصرنا الحاضر أصبح تزايدُ أعدادِ الحُجَّاج وتزاحمهم في المشاعر المقدسة وعند البيت المعظم أثناءَ الطواف مشكلةً كبرى ومحنةً عُظْمَى؛ فقد أصبح عددُ الحجاج والعُمَّار مليونين أو أكثر ن والعدد في تزايد مستمر، والزحام في تفاقم، وهذا ما حمل بعضهم على التَّسَرُّع في الدعوة إلى إحداث التغيير في المشاعر المقدسة، وربما في البيت الحرام والمسجد الحرام، فأنشأوا ما أنشأوه حولَ الجمرات الثلاثِ، حتى كادت تختفي، بل اختفت تمامًا، وحلَّ محلَّهَا أنصابٌ استُحْدِثَتْ للدلالة على أماكنها، أولاً كان عمودًا طويلاً غيرَ عريضٍ؛ ثم جدارًا عريضًا يزيد عرضه على عشرة أمتار في داخل قُمْعٍ بارتفاع خمسة طوابق، والجَمْرَةُ هي البقعة التي ظهر فيها الشيطانُ للخليل إبراهيم فرَجَمَهُ، وكان ذلك ثلاثَ مراتٍ؛ فهي ثلاث بقاع، ولكن أين هي هذه البقاع المقصودة الآن؟
وهكذا اندفعوا أيضًا إلى إحداث التغييرات الأخيرة في المَسْعَى، وهي تغييرات خطيرة لأنها أدت إلى توسيع العَلَمَيْنِ أو الجبلين: الصفا والمروة، وربما كان العُذْرُ لمن أَقْدَمَ على ذلك هو هذا الزحام الرهيب في وقت الحج وفي رمضان، ولكن ما أبداه بعضُ الفقهاء المعاصرين من تحفُّظٍ على ذلك وعلى رأسهم سماحةُ رئيس مجلس القضاء الأعلى السابق الشيخ صالح بن محمد اللحيدان هو الصواب؛ وهو على ما جرى عليه علماء الأمة من عهد إمام دار الهجرة مالكِ بن أنسٍ؛ إلى عهد سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله؛ إلى اليوم: من عَدَمِ الجرأة على إحداث أي تغيير أو تبديل في المقدسات؛ مهما كانت الأسباب، ويُبحث على وسائل أخرى لمعالجة الزحام..
والآن وصلت الجرأة على التغيير والتبديل في المقدسات إلى المسجد الحرام وإلى الكعبة المعظمة.. وبدأ المُتَسَرِّعُونَ في تقديم الأفكار والمقترحات كلٌّ على قدر عقلِهِ وجهدِهِ واجتهادِهِ.
كنتُ قرأتُ مشروعًا أظنه نُشِرَ في مجلة الحج من بعض المهندسين؛ يقترح جَعْلَ المطاف سبعة أدوار حَلَزُونية بحيث يبدأ الطائفُ من أول دائرة؛ ثم تنتهي به هذه الدوائر تلقائيًا عند الحجر الأسود فيُقَبِّلُهُ ثم يخرج من نَفَقٍ يمتد تحت الأدوار السبعة هذه إلى خارج المطاف _ هكذا يتخيل هذا المهندسُ الأمورَ مثاليةً سهلةً _ ولا يدري المسكين أن تطبيق مثل هذه الأفكار غير ممكن عمليًا، أيُّ نَفَقٍ هذا الذي سيخرج منه مليونٌ أو أكثر من الطائفين؛ خاصةً يومَ الإفاضة في الحج، وليلةَ سبعٍ وعشرين في رمضان، مع ما في هذا المشروع المتسرِّع من تغيير فادح في وضع المطاف، إذا سوف يختفي مقام إبراهيم في غمرة هذه الأدوار الحلزونية!! وربما اختفت الكعبة نفسُهَا.
ومع شدة الأسف شارَكَ بعضُ طلبة العلم هذه الحُمَّى _ حُمَّى التغيير والتبديل _ وهو الدكتور يوسف بن عبد الله الأحمد عضو هيئة التدريس بكلية الشريعة بجامعة الإمام بالرياض، فاقترح هَدْمَ كلِّ ما بُنِيَ من المسجد الحرام مع المسعى، مع البناء القديم العباسي أو التركي، ثم إعادة بناء كل ذلك بتصميم جديد: على سبعة أدوار، وتكون دائريةً بحيث يسهل على الطائفين الدورانُ من خلالها حولَ البيت المعظم، الذي سيكون في أسفل هذه البئر المتكونة من سبعة أدوار..
وتفاقم خطأ أخينا الدكتور الأحمد _ هداه الله _ فأشار إلى أنه من مميزات هذا المشروع إزالة الاختلاط الواقع الآن في الطواف بين الرجال والنساء، ومن مميزاته تمكين سبعة ملايين من الحجاج من أداء الطواف بسهولة ويسر.
وفهمْتُ من كلامه أن رسالته _ الدكتوراه _ كانت في نفس الموضوع.
وهذا خطأ آخر من أخينا الدكتور؛ فإنني أظنه أقحم نفسه في أمور هندسية ليست من تخصُّصِهِ، وكلُّ علم يُرَدُّ إلى أهلِهِ، أو يُسأل عنه أهله كما رُوِيَ عن الإمام مالك..
وأخطأ مرةً رابعةً عندما حوَّلَ المسألة إلى قضية شخصيةٍ تتعلق بشخصه الكريم، وهدَّدَ بمقاضاة بعض من أغلظوا له في القول وبالغوا في مخالفته، وكان عليه أن يصبر حتى على من سخروا منه وبكَّتُوه من العلمانيين الذي يفرحون بمثل هذه الأخطاء من طلبة العلم فيستغلونها لتشويه صورتهم وزعزعة مكانتهم بين الناس، كان الصواب هو أن يصبر على كلِّ ذلك لسببين: أولهما أنه طرَحَ موضوعًا خطيرًا فلا ينبغي أن يضيق صدره من ردود الأفعال مهما كانت حادَّةً، وثانيهما أنه في تفاصيل اقتراحه جَانَبَهُ الصوابُ؛
وبيان ذلك ما يأتي:
أولاً: أنه انضم إلى موكب الداعين إلى إحداث التغيير والتبديل في المُقَدَّسَات مخالفًا من ذكرنا من علماء الأمة وآخرهم سماحة المفتي الأكبر الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله، وسماحة رئيس مجلس القضاء الأعلى السابق الشيخ صالح بن محمد اللحيدان..
وهو بذلك يشارك في تحريض ولاة الأمر على الجرأة على تغيير المقدسات؛ كما حدث في الجمرات، وفي توسعة الصفا والمروة؛ مع أن الواجب عليه وعلى جميع أهل العلم النصح لولاة أمور المسلمين بدلالتهم على الصواب الذي أجمع عليه علماء الأمة كما أسلفنا.
ثم أليس تبذيرًا للأموال العامة أن يُهدَمَ كُلُّ ما بُنِيَ حتى الآن وقد كلَّف قرابة مائة مليار ريال أو أكثر.. والله عز وجل يقول: ﴿وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا O إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانًا الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا﴾ [الإسراء: ٢٦ – ٢٧]
ثم إن القول بوجوب إزالة الاختلاط في الطواف وفي الصلاة في المسجد الحرام في أوقات الذروة هو تكليف بما لا يُطَاق، وإيقاع للأمة في الحرج والمشقة، ولكن كل ما يمكن هو التخفيف من حدة ذلك حسب الطاقة، ومراقبة من يندس بين صفوف الطائفات من أهل الريبة والفسق والقبض عليهم وإيقاع أقسى العقوبات عليهم..
أما المبالغة في تصور الحلول الخيالية، بفعل ما لم يفعله السلف فهذا ليس فقهًا، خاصة إذا كان ثمن ذلك هَدْمُ كلِّ ما بُنِيَ حتى الآن.
ومسألة أخرى هامة تتعلق بتزايد أعداد الحُجَّاجِ والعُمَّار، فأخونا الكريم الدكتور الأحمد يتخيل حَشْدَ سبعة ملايين في الحج، وغيره يوصلُ الرقمَ إلى عشرة ملايين حاج أو معتمر، ولنا أن نتخيل _ ما دام الجميع يتخيلون _ ماذا يمكن أن يقع حينئذ من المشقة والحرج، ومن الفوضى في إدارة هذه الحشود، والأنموذج بين أيدينا الآن: عدد الحُجَّاج أو العُمَّار في رمضان يزيد قليلاً على مليونين. وانظر كيف يعاني ولاة الأمور في إدارة هذه الأعداد الضخمة؛ رغم حرصهم الشديد على خدمة ضيوف الرحمن. والله عز وجل يقول: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ [الحج: ٧٨]، وقال: ﴿وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً﴾ [آل عمران: ٩٧]
والفقهاء إنما تحدثوا عن استطاعة طرف واحد هو الحاج أو المعتمر، لكن أحدًا لم يتحدث عن استطاعة مستقـبِـلِي الحجاج والعُمَّار القائمين على خدمتهم؛ لأنها نازلة حدثت في هذه العصور الأخيرة؛ إذ مع توافر وسائل المواصلات واستتباب الأمن في المشاعر وفي مكة المكرمة، أقبل المسلمون من سائر أنحاء العالم على الحج والعمرة؛ فقفزت الأعداد من بضعة آلاف إلى مليون ومليونين وأكثر!!
ومما شجع على هذا الإقبال هذا النقل التلفزيوني الفضائي للحج، ولصلاة التراويح في رمضان في المسجدين المُقَدَّسين فإنه يثير أشواقَ المسلمين؛ فحتى من لم يخطر في باله القدوم تتحرك لواعجُ الشوق في نفسه فيَقْدُم..
الحل العملي المنطقي: أن يتم قياس طاقة المشاعر والمدينة المقدسة مكة المكرمة على الاستيعاب بوضعها الحالي دونما تغيير في المشاعر أو في المسجد الحرام، مع قياس الطاقة الإدارية للمستقـبـِلِين وهم حكومة المملكة العربية السعودية، ويُحَدَّدُ عدد الحجاج أو العُمَّار سنويًا حسب ذلك؛ فيُقال مثلاً إن العدد الذي يمكن استقبالُهُ مليونان سنويًا لا أكثر؛ فلا يُستقبل أيُّ عددٍ فوق ذلك، هذه استطاعة المكان والطاقة الإدارية.
في مكان لا يسع إلا لمليونين لا يُعقَل أن تستقبل سبعةَ ملايين، هذه تكليفٌ بما لا يُطاق، وإيقاعٌ للأمة في المشقة والحرج..
قضيةُ الحج والعمرةِ الرمضانية الحشودُ فيها ليست كباقي الحشود في العالمِ، سمعتُ بعضَ السفهاء يقول: استقبَلَتْ مدينةُ "ميونخ" بألمانيا يومًا ما تسعةَ ملايين زائر من أجل المباريات الكروية الأولمبية.
الفرق شاسع بين هذا وبين ما نحن فيه: الحُجَّاجُ إذا كانوا مليونين يتحركون في وقت واحد، خلال فترة زمنية لا تتعدى أربعة أيام أو خمسة، ثم ينتقلون إلى مكة ويتجمعون في بؤرةٍ واحدةٍ هي المسجد الحرام، الجميعُ يريد أداءَ الصلوات الخمس فيه، فيتحركون في اليوم الواحد جميعًا خمس مرات؛ فحتى لو بَنَيْنَا لهم برجًا من مئة طابقٍ يسع خمسين ألفًا يجب أن نعلم أن الخمسين ألفًا ينزلون من هذا البرج أو يصعدون إليه في وقتٍ واحدٍ خمسَ مراتٍ في اليوم وهذه مشكلة عويصة تضم إلى غيرها من المشكلات.
هذا ما حَمَلَ أحد السفهاء في مصر إلى اقتراح مُغْرِقٍ في الخيال والجهل؛ قال: ولماذا لا نجعل وقتَ الحج طوالَ العام بدلاً من تَرَكُّز هذه الأعداد الضخمة في وقتٍ واحدٍ محدودٍ جدًّا هو أشهر الحج!؟
لا أدخل في التفاصيل أكثر من ذلك، فأصنع مثل ما صنع أخي الدكتور الأحمد؛ أتكلم في غير اختصاصي، لكن هذا الذي ذكرته لا يدخل في التخصصات الدقيقة إنما هي أفكار عامة..
كتبه
عبد العزيز القارئ
بالمدينة النبوية
في 27/ 5 / 1431هـ
|