دَعْوَتُنَا : لأَهْلِ القبلةِ جميعًا إلى التزامِ منهجِ السلفِ، والائْتِلاَفِ في إطارِ أهلِ السنَّةِ والجماعَةِ، والاجتماعِ على الكلمَةِ "كلمَةِ التوحيدِ" وإصلاحِ المجتمعاتِ على ضوءِ ذلك، وتجديدِ الدينِ، وحياةِ المسلمين؛ حتى ينهضوا من جديدٍ أمةً أفضلَ؛ تأمر بالمعروفِ وتنهَى عن المنكرِ وتؤمنُ باللهِ، وتقومُ بواجِبِ الدعوةِ والجهادِ.
: مفكرة القارئ

  عبر الزمان وما جرى به الحدثان_4_الانتقال إلى نجد  
 

الانتقال إلى نجد:

شارع من شوارع الرياض سنة 1366 هـ

في عام 1366 هـ أنشأ الملك "عبد العزيز آل سعود" أولَ مدرسة نظامية في الرياض؛ سُمِّيت "مدرسةَ الرياض السعوديةَ للأيتام"؛ وأمر الملك ابنَه ونائبَه على الحجاز الأمير "فيصل" بأن يرسل له ستةً من المدرسين الممتازين؛ ليؤسسوا هذه المدرسةَ ويباشروا التدريسَ فيها، وتم اختيارهم من قبل مديرية المعارف بمكة؛ وكان منهم والدنا الشيخ "عبد الفتاح"، وكان على رأسهم الشيخ "عبد المالك الطرابلسي"..

ولما بُلِّغُوا بذلك وأنه لا خـيار لهم إلا القبول، اجـتمعوا في بيت الشـيخ "عبد المالك" مهمومين مغمومين، قد غلب عليهم الحزنُ لفراق مكة، والتهيُّبُ من الذهاب إلى "نجد".

وسـافروا جميعًا إلى "الرياض" ووصلوا إليها في وقـت واحد؛ وأخذ الشــيخ "عبد الفتاح" معه زوجتَه وابنَه الرضيع "عبدَ العزيز"، وسكن الجميع بجوار مبنى المدرسة في بيوت متجاورة، وسكن الشيخ "عبد المالك" مع أهله، والشيخ "عبد الفتاح" مع زوجته وولده في بيتين متلاصقين.

وكان الملك قد أفرَدَ للمدرسة مبنًى قريبًا من قصره في "المُرَبَّع".

ومما يلفت النظر هنا أن المدرسة بدأت بمائةٍ وأربعين يتيمًا، كان يُنفَق عليهم من القصر، وبستةِ مدرسين جُلِبوا من مكة؛ فأين مشايخ الرياض وأبناؤها؟

يبدو أن المدرسة في أول أمرها واجهت إعراضًا من أهل نجد وتَوَجُّسًا، لأنها في ظنهم مدرسة على نظام "الإنجليز" لمجرد كونها منظمة بإدارة ومنهج؛ كأن تنظيم مثل هذه المدارس هو من خصائص " الإنجليز "؟!

لكن المجتمع في نجد في ذلك الوقت كان أقرب إلى البداوة، ولم تكن "الرياض" تُعَدُّ شيئًا أمام حواضر الحجاز "مكة" و"المدينة" والحياةِ الاجتماعية المتطورةِ فيهما، وكذلك الحياةُ العلمية، فقد كانت المدارس فيهما مزدهرةً، وأشهرُها في مكة "المدرسة الصولتية" التي أنشأها الشيخ "رحمة الله" الهندي مؤلف كتاب "إظهار الحق" في مناظرةِ النصارى، وأُنشئت المدرسة على نفقة الأميرة "صولة النساء" من أميرات الهند المسلمات، ويا لها من أميرةٍ جليلة القدر عالية الهمة، ها هو أثرها هذا العظيم باقٍ إلى اليوم؛ فرحمها الله وأجزل لها المثوبة، ورحمَ الله الشيخَ "رحمةَ الله" فقد كان إنشاءُ هذه المدرسة من اقتراحه على الأميرة التي أرادت في البداية أن تبني مسجدًا، فأشار عليها بأن تجعلها مدرسة، وكان تأسيس هذه المدرسة عام (1292) هـ.

 

 

وأنشأ أحد أعيان "مكة" وهو الوجيه "محمد زينل علي رضا" مدرسة "الفلاح" سنة (1347) هـ.

وأنشئ في أوائل العهد السعودي "دار التوحيد" بمكة؛ وهكذا كانت مكةُ عامرةً بالمدارس.

وفي المدينة أنشأ الشـيخ "السـيد أحمد الفيض آبادي" "دارَ العلوم الشرعيـة" سـنة (1340) هـ؛ بتمويل من أثرياء الهند المسلمين، وقد سمعتُ العمَّ الشيخَ "محمد سلطان النمنكاني" وكان أمين المكتبة بهذه المدرسة، يذكر: أنه كانت تأتي من الهند كلَّ عام سبائكُ الذهب معبأةً في "تَنَكٍ" للصرف على المدرسة، وعلى أهل المدينة، فانظر ما أعظم عناية أثرياء الهند المسلمين بتعمير الحرمين بالمدارس.

 

مدرسة العلوم الشرعية وأمامَهَا مؤسسها الشيخ أحمد الفيض آبادي

 

وفي المدينة المنورة أيضًا مدرسة قديمة أنشأها الشيخ "محمد عبد الباقي اللكنوي الأنصاري" سنة  (1324) هـ، ودَرَسَ فيها ودرَّسَ مشاهيرُ العلماء. وهكذا بينما كانت "مدرسة الأيتام السعودية" هي أولَ مدرسةٍ نظاميةٍ بالرياض كانت بلاد الحرمين مزدهرةً بالمدارس.

ولما استوحَشَ أهلُ نجد من تلك المدرسة كان من البديهي أن ينظروا شزرًا لهؤلاء المدرسين المكيين الذين جاءوا من أجل إقامتها؛ فعاملوهم بجفاء، حتى كانوا لا يردون عليهم السلام إذا سلَّمُوا، وضاق أولئك المدرسون ذرعًا بهذا الجفاء، ولما جاءهم مندوب الملك يتفقد أحوالهم، شكا إليه الشيخ "عبد المالك" جفوةَ أهل الرياض وطلب إعادتهم إلى مكة، فقال مندوب الملك:

_ أمهلني يا شيخ عبد المالك بضعة أيام وما يصير إلا خير.

وبعد أيام قال له:

_ الشيوخ حدَّدَ لكم غدًا لزيارته والسلام عليه.

و"الشيوخ" في لغة أهل نجد يعني الملك، واعترت الهيبةُ من هذا اللقاء جميعَ المدرسين الستةَ، فالملك عبد العزيز كان أعظمَ شخصيةٍ شهرةً وقوةً في ذلك الوقت.

ودخل المدرسون المكيون على الملك وهو في مجلسه، وكان قاعةً واسعةً، والناسُ من أعيان أهل الرياض ورؤسائهم جالسون على الكراسي في جوانب القاعة، وصدرها فارغ إلا من كرسي واحد، كان الملك جالسًا عليه؛ ولعل ذلك لدواعٍ أَمْنيةٍ؛ فقد كثرت محاولات الروافض اغتيالَ الملك عبد العزيز، ومن قبْلُ استُشْهد جدُّه الإمام "عبد العزيز بن محمد بن سعود" سنة (1218) هـ وهو في المحراب في صلاة الفجر، وذلك على يد رافضي نجس.

ولما أطلَّ أولُ المدرسين وهو "الشيخ عبد المالك" داخلًا القاعة: قامَ الملكُ عبدُ العزيز؛ فهبَّ كلُّ من في المجلس قيامًا، قام أعيانُ أهل الرياض ورؤساؤهم، وكان منظرًا مهيبًا له دلالاته البليغة، وظلَّ أهلُ الرياض قيامًا حتى سلَّمَ آخرُ المدرسين على الملك وجلس في الكرسي المُخصَّص له، وجلس الملكُ فجلس أهلُ الرياض، ودارت القهوة، ثم قام الملك وانصرف.

وقام الناس يُسلِّمون على المدرسين ويحيونهم ويرحبون بهم، فعجب هؤلاء من تَغيُّر الموقف بهذا الشكل السريع؛ فشرح لهم مندوبُ الملك دلالات هذه الزيارة:

_ إن الشيوخ أراد أن يقول لأهل الرياض: هؤلاء المدرسون هم ضيوفي وفي وجهي فأكرموهم يا أهل الرياض.

وهذا الذي كان؛ أصبح المدرسون أينما حلُّوا في الرياض يتسابق الناس للسلام عليهم والترحيب بهم:

_ عندنا القهوة الليلة؛ قولوا تم؟!

هذه أصبحت العبارة المتكررة على ألسنة الناس، التي يوجهونها للمدرسين عند اللقاء..

يا له من ملك؟!

ومن طُرَفِ هذه المرحلة ما رواه لي فضيلة الشيخ "عبد الله بن غديان" رحمه الله عضو الهيئة الدائمة للإفتاء، وعضو هيئة كبار العلماء، وأحد فقهاء العصر؛ أنه كان من طلاب هذه المدرسة قال: وكان والدك يدرِّسُنَا، ويدخل الفصلَ أحيانًا ومعه "بَرَّادُ" الشاي "الطَّلْخ" أي بدون سكر، يجفف به حلقَهُ، ودخل علينا الفصل يومًا وقد حملك على يمينه، و"براد الشاي" في شماله، وكنْتَ صغيرًا، فوضعك على "الطاولة" وبالقرب منك "براد الشاي" فما لبثتَ أن دفعته برجلك فسقط "البَرَّادُ" وانكسَرَ، وانسكب الشاي على أرض الفصل؛ فقمنا نبادر بلَمِّ الزجاج الصيني من الأرض، وفرحنا بهذه المهمة إذ كان فيها شيء من الترويح عن عناء الدروس.

ومن عجائب هذه الفترة أنه بعد سنتين أو أقل بدأ أهل الرياض يُلْحِقُونَ أبناءَهم بالمدرسة لما تأكَّدَ عندهم سلامتُهَا من العلل، وما تحقِّقُهُ من فوائد عظيمة للطلاب، وبدأ بعض شيوخ الرياض يلتحقون بها للتدريس.

وكان منهم الشيخ "عبد الكريم الجُهَيْمَان" وكان يومَهَا شيخًا مُتَنَطِّعًا؛ فَمَرَّ يومًا على الفصل الذي كان يدرِّسُ فيه والدنا "الشيخ عبد الفتاح" وكان قد أدركه التعب فأوجع ظهره، فعقد يديه خلف ظهره يستعين بهما على الوقوف، ومكافحة التعب؛ فهجم عليه "الجهيمان" بالإنكار أمام الطلاب:

_ يا شيخ عبد الفتاح لا تعقد يديك على "مَكْوَتْك" أمام التلاميذ هذا أمر لا يليق.

و"مَكْوَتْك" أي دبرك، ولم يكن الوالد واضعًا يديه على دبره، إنما على أسفل ظهره، وذلك شيء لا حرج فيه شرعًا، ونظر الوالد إلى هذا "الجهيمان" فإذا به يلبس ثوبًا خفيفًا شفافًا يشبه "الشاش"، وليس تحته سروال؛ فعورته ظاهرة، وكانوا يلبسون مثل هذه الثياب في الصيف، وبعضهم لا يلبس السراويل يقول: إنما هي للنساء.

فقال له الوالد:

_ أنكرْتَ عليَّ أمرًا لا موجبَ لإنكاره، وتقف أمام الطلاب وعورتك ظاهرة؟ أنت شيخ بلا حياء!!؟

ووَلَّى "عبدُ الكريم الجهيمان" الأدبارَ، لَـمَّا رأي غضبَ الوالد، ورأى أنه انكشف؛ والعجيب أن هذا "الجهيمان" المتنطع أصبح بعد ذلك من رموز القومية والتحرر؛ وأقام في بيروت معظم عمره.

ومن عجائب هذه الفترة أن "عبد العزيز" وقد بلغ سنةً وأخذ يحبو، تَبِعَ والدَه يومًا عندما خرج من البيت إلى المسجد لصلاة المغرب دون أن يشعر به والده، وخرج الطفل من باب المنزل وقعد على العتبة، وهذا وقتٌ أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الجن يكثرون فيه في الطرقات، وبعد انقضاء الصلاة وقد بدأ سوادُ الليل يَدْلَهِمُّ، عَادَ الوالد من المسجد، ولَـمَحَ من بُعْدٍ ابنَه الصغيرَ يلاعب كلبًا أسود على عتبة البيت؛ فأسرع إليه فَزِعًا؛ فلما وصل إليه وجده مغميًا عليه، وقد تَخَشَّبَ جسدُه؛ فحمله وهو يُعوِّذه بالله من الشياطين؛ ولكن كان المقدور قد وقع والقضاءُ قد حُمَّ، ومكث الوالد أيامًا يقرأ على ابنه ويرقيه، وما من فَرَجٍ، لبث كلَّ تلك الأيام في غيبوبة لا يبدي أيَّ حراكٍ، ولولا نَفَسِهِ الضعيفِ ما عرفوا هل هو حي أم ميت، وسأل الشيخ "عبد المالك" يومًا:

_ ما صنعتْ رقيتُكَ يا شيخ "عبد الفتاح".

_ لا شيء، ما زال الطفل على حاله.

_ سآتي ابتداءًا من الليلة وأرقيه.

وتَمَّ ذلك، ورقاه ثلاثةَ أيام قامَ بعدها "عبد العزيز" وما به من بأس.

بعد ذلك حَرَص مَنْ في البيت على مراقبة الطفل حتى لا يخرج مرة أخرى من باب البيت، فقد كانت الطرقاتُ موحشةً والبيوتُ متباعدةً.

ولما بلغ "عبدُ العزيز" ثلاثَ سنين ألحقه والده بفصلٍ في المدرسة يسمونه "السنة التحضيرية" يساوي ما يُسمى الآن بروضة الأطفال.

وبدأ يقرئه القرآنَ ويُحفِّظه "التحفة" أي: "تحفة الأطفال والغلمان في تجويد القرآن" للشيخ سليمان الجمزوري المصري الأزهري، وهي منظومة سَلِسَةٌ سهلة مطلعها:

يقولُ راجِي رحـمـةِ الغفورِ

 

دومًا سـليمانُ هو الجَمْزُورِي

وتبلغ أبيات هذه المنظومة (61) بيتًا، تعوَّدَ أهل التجويد على أن تكون أولَ ما يتلقونه في علم التجويد، ثم يتلقون بعد ذلك "المقدمةَ فيما على قارئِهِ أنْ يَعْلَمَه" لشمس الدين ابن الجزري، وهي من أقوى المنظومات وأحسنها سبكًا ونظمًا، مطلعها:

يقولُ راجِي عَفْوِ ربٍّ سـامِعِ

 

محمدُ بْنُ الجزريِّ الشـافِعِي

الحـمـدُ للهِ وصَـلَّـى اللهُ

 

على نـبـيِّـهِ ومصـطفَاهُ

وبَعْدُ إنَّ هـذه "مُـقَدِّمَـهْ"

 

فيما على قارئِهِ أنْ يَـعْلَمَـهْ

 

وتبلغ أبياتها (مائةً وسبعةً)؛ وقد حفظتُ كلا النظمين وتلقيتهما عن والدي رحمه الله، مع تلقِّي القرآن الكريم؛ واعتنى بي رحمه الله وجزاه عني خيرَ الجزاء، حتى أتقنتُ الحروفَ واكتسبت الفصاحة في تلاوة كلام الله، وأكسبني ذلك الفصاحةَ في غيره من أنواع الكلام، وأكسبني النطقَ الصحيحَ بلغة العرب، وكان يحرِص حرصًا شديدًا على سلامة لساني من أي عُجْمَةٍ أو لُكْنَةٍ، ولذلك منعني من التكلم بـ "اللغة الأوزبكية" التي كان ينطق بها في البيت مع الوالدة؛ لكن إذا ضبطني أتكلم بها كان يضعني في "الفَلَقَةِ" ويجلدني؛ هذا عندما بلغْتُ السنَّ التي يُجْلَد فيها الصبي.

وأذكر من حُسْن أساليبه التربوية أنه مع شدة صرامته، وإذا ضَرَبَ أَوْجَعَ، لكنه لم يستخدم ذلك في إقرائي القرآنَ؛ حفظْتُ أو لم أحفظ كان يتابعني بإلحاح؛ ولكن برقةٍ بالغةٍ، إذا كان الأمر متعلقًا بالقرآن، وإذا رآني أثناء ا لدرس وقد غلبني التعب، أو راوَدَ أجفاني النعاسُ يوقِفُ الدرسَ ويأمرني بالانصراف.

 

           [الحلقة التالية: الإمعان في نجد]


حقوق النشر والطبع © 1429هـ فضيلة الشيخ عبدالعزيز القارئ . جميع الحقوق محفوظه
Copyright © 2008 alqary.net . All rights reserved

33438