دَعْوَتُنَا : لأَهْلِ القبلةِ جميعًا إلى التزامِ منهجِ السلفِ، والائْتِلاَفِ في إطارِ أهلِ السنَّةِ والجماعَةِ، والاجتماعِ على الكلمَةِ "كلمَةِ التوحيدِ" وإصلاحِ المجتمعاتِ على ضوءِ ذلك، وتجديدِ الدينِ، وحياةِ المسلمين؛ حتى ينهضوا من جديدٍ أمةً أفضلَ؛ تأمر بالمعروفِ وتنهَى عن المنكرِ وتؤمنُ باللهِ، وتقومُ بواجِبِ الدعوةِ والجهادِ.
: ترجمة عالم

  الشيخ المُربِّي الفقيه محمد بن علي التركي  
 

الشيخ المُربِّي الفقيه محمد بن علي التركي

 

أحد علماء المسجد النبوي الشريف؛ كانت حلقته بجوار خوخة أبي بكر الصديق رضي الله عنه.

واسمه محمد بن علي بن منصور بن عبد الله ابن تركي، من قبيلة بني خالد المنحدرة من نزار بن معد بن عدنان.

وُلِدَ  في "عُنَيزة" من مـدن القصـيم عام (1299) هـ، وقال البسـام: عام (1301) هـ.

في أول نشأته اشتغل مع أخيه إبراهيم بالتجارة، فكانت فرصة له لِلُقْيَا العلماءِ في المدن والبلاد التي زارها..

ففي مكة درس على المشايخ: أحمد بن عيسى، وأبي بكر خوقير، وصالح أبي فضل، وعبد الرحمن الدهان، وعبد الله زواوي، وعلي المالكي، وعبد الله أبي الخيور، والشيخ المُحدِّث شعيب الدكالي.

وفي عنيزة قرأ على محمد العبد الكريم بن شبل، وعبد الله بن عايض، وعلى الشيخ عبد الرحمن بن سعدي، وكان إلى جانب حضوره دروسه العامة، يحضر عنده درسًا خاصًا به في "شرح المنتهى".

وقد رحل إلى الهند وقرأ على علمائها في "دلهي" و "بمباي" و "حيدر أباد"، وزار العراق، والشام؛ ودخل دار "الشَّطِّيَّة" بدمشق واتصل بعلمائها، وذلك في سنة (1340) هـ، وزار فلسطين، ثم رحل إلى مصر ولقي علماءها، وفي فلسطين اتصل بالحاج "أمين الحسيني"، ودرَّسَ بالمسجد الأقصى، وجلس الحاج أمين الحسيني في درسه يستمع إليه، وقال: إنه لم يجلس على هذا الكرسي بعد الشيخ محمد عبده أحسنُ من هذا الشيخ.

وفي عام (1357) هـ تجوَّل في نجد والأحساء والقطيف وباقي إمارات الخليج، ثم عاد فأقام في المدينة المنورة..

يقول البسام: "وهذه الرحلات أكسبته خبرةً بالناس، ومعرفةً بالبلدان وأحوال أهلها، كما اجتمع بعلمائها وكبارها؛ حتى صار من أعرف الناس بالناس".

وكان قويَّ الحافظة، وجَّه أكثر عنايته للفقه فبرع فيه، وكان يحفظ ديوان "المتنبي".

وقد وُلِّيَ القضاء بالمدينة المنورة سنة (1345) هـ، وفي السنة التالية عُيِّنَ مساعدًا لرئيس القضاة بمكة الشيخ عبد الله بن بليهد، وبناءًا على طلبه أعفي من ذلك سنة (1347) هـ.

ثم عُيِّنَ مدرسًا بدار العلوم الشـرعيـة بالمدينـة المنورة، وطلبَهُ سماحـةُ الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشـيخ للتدريس بالمعهد العلمي بالرياض عند إنشـائه عام (1371) هـ، فاعتذر وبقي بالمدينة المنورة.

ولما استقرَّ به المقام في مدينة خير الأنام نبينا محمد عليه الصلاة والسلام صارت حلقته بالمسجد النبوي الشريف من أشهر حلقات الدرس والوعظ، وانتفع بعلمه الخاص والعام؛ فكان يُدرِّس صحيحَ البخاري، وفي ليلة الجمعة يُدرِّس "تبصرةَ" ابن الجوزي في الوعظ، وكان لدرسه أثر كبير في نفوس السامعين.

وعاش زاهدًا متقشفًا، متقللاً من الدنيا، مقتصرًا على الكفاف، وكان قويًا في الحق آمرًا بالمعروف ناهيًا عن المنكر، جريئًا في وعظ الحكام والكبراء، وله وقائع مع الملك عبد العزيز يتداولها الناس؛ منها ما رواه لي ابْنُ أخيـه الشـيخ محمد بن إبراهيم التركي رحمه الله لما سألته:

_ أكان الشيخ يلبس العِقَالَ فإني رأيتُ له صورةً بالعقالِ العراقي العريض.

فقال: لَبِسَه مرةً ودخل على الملك عبد العزيز لما زار المدينةَ، وكان بجواره الشيخ عبد الله بن حسن آل الشيخ فأنكر على الشيخ لُبْسَ العقال وقال: إنه ليس لباس العلماء.

فسأله الملك: لماذا تلبس العقال يا ابن تركي مع أنه ليس لباس العلماء؟

فأجابه الشيخ:

_ حتى أبيِّنَ لك أن هذا العقال الذي على رأسي حلال، والذي على رأسك حرام لأنه مُقَصَّبٌ بالذهب.

وكان شديد الإنكار على فرض الضرائب والجمارك؛ حتى إنه اشترط عندما عينه الملك عبد العزيز قاضيًا بالمدينة المنورة أن يتسلَّمَ راتبَه من البريد لأنه حلال، وباقي أموال الدولة حرام، أو فيها شبهة.

من أساليبه في تربية الناس وهدايتهم ما حدثني به الشيخ علي بن مشرف العَمْري؛ من أن سبب هدايته إلى طلب العلم والالتزام بالآداب الشرعية هو الشيخ ابن تركي:

كان الشيخ "علي" في شبابه جنديًا في شرطة المدينة المنورة، وكان يقف مناوبًا عند باب السلام في "كُشْكِ" الحراسةِ الموجود عند الباب، وكان غيرَ ملتزم بالآداب الشرعية وله شَعْرٌ يَتَدَلَّى على كتفيه، ولا يعرف الصلاة، فَمَرَّ به يومًا الشيخ ابن تركي وهو داخلٌ إلى المسجد؛ فتوجَّهَ إليه ونصحه قائلاً:

_ يا بني احلق شعرك فإنه لا يجوز للرجال التشبه بالنساء.

يقول الشيخ "علي": فلم أُلْقِ بالاً لهذا "المُطَوَّع"، وجاء يومًا آخر فرآني على حالي فتوجَّهَ إليَّ؛ فما شككْتُ أنه سيوبخني توبيخًا شديدًا؛ فإذا به بعد السلام عليَّ يناولني خمسة ريالات ويقول لي:

_ تأتينا مساعدات نصرفها للمحتاجين فخذ هذا المبلغ ينفعك.

يقول الشيخ "علي": ففرحتُ بذلك المبلغ؛ فإنه يُعَدُّ في تلك الأيام مبلغًا جيدًا. وما بتُّ تلك الليلة حتى حلقتُ شعري؛ حتى إذا رآني الشيخ يراني على أحسن حال..

وبعد أيام مرَّ بِـي الشيخُ ففرح لمنظري، ودعا لي بالتوفيق وأعطاني خمسة ريالات أخرى وقال:

_ إن أحببْتَ أن تلقاني فدرسي على يسارك إذا دخلت من باب السلام هذا.

وكانت هذه الكلمة هي "السُّنَّارَةُ" المباركة التي صادت السمكةَ، فإن الشيخ "علي" لما استبطأ الشيخ بعد ذلك واشتاقَ إليه، وإلى الريالات الخمسة، دخل من باب السلام فإذا بالشيخ "ابن تركي" جالسًا في صدر حلقته كالقمر، فجلس الشيخ علي في طرف الحلقة واستمع؛ فوُلِدَ من جديد، ومن يومها لم يفارق الحلقة.

ولما ازداد نَهَمُهُ للعلم أرشده ناصح إلى حلقة أخرى خلف الروضة الشريفة، فإذا بشيخ أسمر اللون حلو الكلام؛ يَتَصَبَّبُ كلامُهُ ويَتَحَدَّرُ كالسيل، إنه الشيخ عمر بن محمد فُلَّاتَه _ رحمه الله _؛ وجلس في الحلقة يستمع، وبعد الدرس تقدم نحو الشيخ يسلم عليه، فلما عرف الشيخُ حالَهُ أهداه كتابًا؛ أتعلمون ما هو؟ إنه "روضة المحبين" لابن القيم؛ فانظر إلى رقة علماء المدينة المنورة ولطفهم.

وحدثني تلميذ آخر من تلاميذ الشيخ "ابن تركي" أنه ناقشه يومًا في مسألةٍ قرَّرَهَا في الدرس، فسأله عنها فأجابه:

_ هذا ما ذكره الحنابلة في كتبهم.

فقال التلميذ: ولكن ما هو دليلهم أريد الدليلَ.

فقال الشيخ: غدًا في الساعة _ الفلانية _ تأتي إلى بيتي فنبحث في كتبهم.

قال التلميذ: فشاءَ اللهُ أني نسيتُ الموعدَ، وانتظرني الشيخ ولم أحضر؛ فلما رآني بعد ذلك ما زاد على أن قال:

_ وإذا وَعَدَ أخلف.

ثم كلَّفَ أحدَ طلابه أن يبلغني بأن الشيخ يقول لك لا تجلس في درسه. وحرمني من حضور الدرس شهرًا كاملاً؛ كنت خلاله أجلس خلفه قريبًا من الحلقة بحيث أسمع الدرسَ ولا يراني، وكان يشعر بذلك ولم يقل شيئًا، وبعد شهر قال لي ذلك الطالب: الشيخ يقول لك لا مانع من عودتك إلى الدرس وفرحتُ بذلك؛ وبعد الدرس عندما همَّ الشيخ بالانصراف سلَّمتُ عليه واعتذرتُ عن تقصيري، فأخذني في جنبه محتضنًا إيايَ، ولَفَّنِي بـ "مِشْلَحِهِ" وقال لي:

_ الذي يطلب الدليلَ ولا يقنع بكلام الحنابلة يجب أن يحافظ على الموعد.

قال الراوي: وكان درسًا بليغًا لا يُنسَى..

هكذا هم العلماء الربانيون؛ فإنهم الذين يُعَلِّمون الناسَ، ويُرَبُّونهم على العلم.

ومرض في آخر عمره؛ وأرهقته الشيخوخة، ولما اشتدت عليه وطأة المرض أشار عليه بعضُ محبيه بالسفر إلى الخارج للعلاج فقال:

_ ما بعد عَشْرِ التسعين إلى الرحيل، وأقراني كلهم سبقوني ونحن بالأثر فالله المستعان.

وفي صبيحة يوم الجمعة، العشرين من جمادي الآخرة من عام (1380) هـ وافاه الأجل المحتوم، وصُلِّيَ عليه بالمسجد النبوي بعد صلاة الجمعة، ودفن ببقيع الغرقد؛ رحمه الله وغفر له وأسكنه فسيح الجنان.

 

[ ملخصًا من "روضة الناظرين" لمحمد بن عثمان بن صالح القاضي بعنيزة، الطبعة الأولى سنة 1400 هـ بمطبعة الحلبي بمصر /ومن "علماء نجد خلال ستة قرون" لعبد الله بن عبد الرحمن البسام، طبعة النهضة الحديثة بمكة المكرمة سنة 1398 هـ ]


حقوق النشر والطبع © 1429هـ فضيلة الشيخ عبدالعزيز القارئ . جميع الحقوق محفوظه
Copyright © 2008 alqary.net . All rights reserved

13877