الإمعان في نجد:
في سنة (1370)هـ أقامت "دارُ ومدرسةُ الرياض السعوديةُ للأيتام" _ هكذا صار اسمها بعدما صارت تقبل الطلاب من الأيتام ومن غيرهم لا تشترط أن يكون يتيمًا، وكان اسمها قبل ذلك "دار الأيتام السعودية" _: حفلاً حضره ولي العهد الأمير سعود بن عبد العزيز آل سعود، وافتُتحَ الحفلُ بالقرآن؛ ورتَّلَ الطفلُ "عبد العزيز ابن عبد الفتاح القارئ" سورة والضحى؛ وأُعجب الأمير بالترتيل فأرسلَ في اليوم التالي صُرَّةً فيها سبعمائة ريال فضة؛ حملها أحد عبيد الأمير؛ وطرَقَ الباب؛ فلما فتح الوالد الباب دفع إليه بالصرة وهو يقول:
_ هذه هديةُ الأميرِ للوِرْعِ الذي قَرَا.
و "الوِرْع" في لغة أهل نجد الطفل، و "قَرَا" أي قرأ؛ ولكن بالمد على إبدال الهمزة ألفًا؛ وهي لغة نجدية قديمة، ولغة عربية فصيحة، ومن قراآت القرآن "يومنون" بواو بدل الهمزة، و "تاكلون" بألف بعد التاء على الإبدال.
وكانت تلك الصرة أولُ ثروةٍ هبطت على "عبد العزيز"، وصار الوالد يضرب كفًّا بكف متعجبًا وهو يقول:
_ هذا كرم أم تبذير؛ لو أرسل هذا الأمير السخيُّ سبعين ريالاً لكانت كافية.
وكان " سعود " مشهورًا بالكرم، يسميه أهل نجد "أبو خَيْرَيْن" إذا أعطاك خيرًا يجعله خيرين؛ أي مُضَاعَفًا؛ واختيارُ الملك عبد العزيز لابنه سعود ليتولى المُلْكَ بعده حنكةٌ سياسيةٌ لا مثيل لها؛ لأن البلاد لم تلتئم جروحها بَعْدُ بسبب الحروب والقتل الذي صار في القبائل، فهذا الأمير بسخائه استطاع بعد ذلك أن يداوي كلَّ تلك الجروح، ولكن الخزينة أفلست وصارت خاوية، لأن الكرم كدَّره البَذَخُ وسوءُ التصرف؛ فجاء فيصل بعد سعود ليُعِيدَ تنظيم الدولة بحنكته الإدارية ودهائه السياسي، وهكذا تُبنَى الممالك.
ومن قَبْلُ من عِبَر التاريخ تَوَلِّي "معاوية" رضي الله عنه الخلافةَ بعد حروبٍ طاحنةٍ مزَّقت النفوسَ وألَّبَتِ الصدورَ؛ فامتلأت بالضغائن والأحقاد؛ ولكنه رضي الله عنه بذكائه وحلمه وكرمه داوى كلَّ ذلك، وقد نَفَّذَ وصيةَ الرسول صلى الله عليه وسلم على أحسن وجه، فقد رُوِيَ أنه صلى الله عليه وسلم قال له: "إن وُلِّيتَ أمرًا فاتق الله واعدل"، وفي رواية: "فاقبل من محسنهم وتجاوز عن مسيئهم" ()
وجاء طلب من سماحة المفتي الشيخ "محمد بن إبراهيم آل الشيخ" رئيس المعهد العلمي بالرياض بنقل الشيخ "عبد الفتاح قارئ" إلى المعهد؛ وذلك بخطاب من مدير المعهد الشيخ "عبد اللطيف بن إبراهيم آل الشيخ" موجهٍ إلى المشرف على "دار ومدرسة الرياض السعودية للأيتام" الأمير "طلال بن عبد العزيز آل سعود" مؤرخٍ بتاريخ 24/4/1371 هـ؛ وتم ذلك.


وباشر الشيخ عبد الفتاح في المعهد العلمي تدريس القرآن والتجويد من التاريخ المذكور حتى أوائل عام 1381 هـ، حيث أنشئت الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، فنُقِلَ إليها مدرسًا، اعتبارًا من 1/5/ 1381هـ.
وخلال هذه الحقبة دَرَسَ عليه بالرياض ممن هم الآن من أعيان أهل العلم؛ وسمعتُ منهم ذِكْرَ تَلْمذتِهِم له أصحابُ الفضيلة: صالح بن محمد اللحيدان، والشيخ عبدُ الله بن غديان، والشيخ صالح بن غصون، والشيخ عبد الرحمن البَرَّاك، والشيخ محمد بن صالح العثيمين، ومعالي الدكتور الشيخ عبد الله بن عبد المحسن التركي، وغيرُهُم.
ومن أخلاق الأكابر الوفاءُ والبِرُّ مع شيوخهم..
قَدَّمْـتُ ذاتَ يومٍ من أيام الموسـمِ الثقافي للجامعـة الإسلامية بالمدينـة عام 1391هـ: لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز بترجمة موجزةٍ له، وذكرْتُ شيوخَه فيما ذكرتُ، فبدأ محاضرتَهُ بقوله:
"نسي المُقدِّم واحدًا من شيوخي؛ وهو الشيخ سعد وقاص البخاري؛ درسْتُ عليه القرآن والتجويد بمكة".
وأكْبَرَ جميعُ الحاضرين هذا الأدبَ الرفيعَ، وهذا البِرَّ من سماحته بشيخه حيث أَبَى نسيانَه.
وذاتَ يومٍ من أيام عام 1412هـ، دعاني جاري وصديقي العزيز الشيخ أبو عبد القيوم محمد بن ناصر السحيباني إلى طعام الإفطار صباحًا؛ على شرف فضيلة الشيخ الفقيه المشهور "محمد بن صالح العثيمين" ففرحتُ بذلك؛ لأنها فرصة للجلوس مع الشيخ ومناقشة بعض القضايا المهمة معه؛ لأنه كان كلما جاء إلى المدينةِ التفَّ حوله ثُلَّةٌ من صغار طلبة العلم؛ فيحيطون به إحاطة السوار بالمعصم؛ فيمنعون بذلك اتصالَ أهلِ العلم به، ولو كُلِّف رجالُ المخابرات بذلك لما قامو به أحسن مما فعل أولئك الطلبة المُغَفَّلُون.
وقبل حضور الشيخ بنصف ساعة حضرْتُ إلى دار أبي عبد القيوم فإذا بثلةٍ من أولئك الطلبة تُقَاربُ العشرين قد سبقوني، ثم جاء الشيخ وحوله مثلُهُم؛ فعجبْتُ من هذه العادة السيئة..
وكنْتُ أولَ من استقبل الشيخَ وسلَّمَ عليه، فأخذ بيدي وضمها إليه بحنان وقادني حتى أجلسني بجواره، ثم خاطَبَ أولئك الجَمْعَ من الطلبة قائلاً:
_ أتعرفون هذا الشيخ؟
فقالوا: نعم، نعرفه، هذا عبد العزيز القارئ.
فقال الشيخ: اليوم أُعرِّفُكم بشيءٍ عنه لا تعرفونه، والدُهُ الشيخُ عبدُ الفتاح قارئ أسـتاذي، درَّسـني القرآن والتـجويد بالمعهد العلمـي بالرياض عام 1381هـ، ولا زلْتُ أذكرُ كيف أمسك بيدي يومًا برقة وحنان قائلاً:
_ يا ابن عثيمين لا تنس حروفَ الإدغام؛ ستةٌ مجموعةٌ في قولكَ "يَرْمُلُونَ" ثم قبض أصبعًا من أصابعي وقال: "الياء" وهكذا حتى عَدَّها؛ مع كل حرف يطوي أصبعًا.
هكذا أخلاق الأكابر، أما بعض الأصاغر في زماننا فقد حُرِمُوا من هذا الأدب: تلاميذي كثيرون وقد تبوءوا المناصبَ، وأكثرهم جلس على كرسي التدريس، حتى قابلْتُ يومًا دكتورًا بكلية الشريعة بالجامعة الإسلامية بالمدينة؛ فلما عرَّفَ بنفسه فإذا بالذي أشرف على رسالته من تلاميذي؛ فصار هو من أحفادي في العلم؛ فأحسستُ يومها أني في عمر سيدنا نوح عليه السلام؛ خاصةً أنه ذكر إشرافَه هو أيضًا على رسالة طالبٍ آخر.
والحمد لله أكثرهم أوفياء لم ينسوا شيخَهم؛ حتى من إخواننا الشناقطة؛ فإنهم مع تظلعهم بالعلوم فيهم أدب رفيع مع شيوخهم، لكن شذَّ منهم ذانِكَ المحرومان، ومن شدة سوء أدب أحدهما أن رئيس الجامعة في وقته الدكتور عبدَ الله العُبَيْد سأله:
هل درَّسَكَ الدكتور القارئ؟
فقال: لا يُعَدُّ من شيوخنا لم يُدرِّسنَا إلا القرآنَ والتجويد ولمدة سنةٍ واحدة.
ومن لا يَعُدُّ القرآنَ والتجويدَ شيئًا تثبت به التلمذة؛ فإنه لا يُشرِّف أيَّ شيخٍ أن يكون هذا المحرومُ من تلاميذِهِ.
[ الحلقة التالية / معهد الملك سعود للتربية والصناعة ]
|