معهد الملك سعود للتربية والصناعة:

أحد شوارع الرياض سنة 1366 هـ
سنة (1375) هـ تحولت "المدرسة السعودية للأيتام" إلى معهد حديثٍ تديره شركة أجنبية، أسْمَوْه "معهد الملك سعود للتربية والصناعة" وكنت أحد طلاب المدرسة الأولى فصرت من طلاب هذا المعهد. وكان نظام الدراسة في المعهد ألمانيًا؛ فكنت أذهب إلى المعهد عند شروق الشمس؛ ويستغرق اليوم الدراسي نهارًا كاملًا نتناول خلاله طعام الغداء في مبنى المدرسة الذي بُني على أحدث طراز، وكنا طلاب المعهد نلبس زيًّا موحَّدًا؛ عبارة عن قميص أبيض و"بنطلون" أزرق، و"كَرَفِتَّةٍ" على شكل وردة، و"بريهة" _ أي قبعة _ كالتي يلبسها الطيارون، وكانت اللغة المقررة في المرحلة الابتدائية الإنكليزية، وفي المرحلة المتوسطة الفرنسية، وفي المرحلة الثانوية الألمانية..
ولك أن تقارن هذه الحال التي آلت إليها "مدرسة الأيتام السعودية" بموقف أهل الرياض منها عند إنشائها سنة 1366هـ؛ إذ من المفارقات المتناقضة وجود معهد للتربية والصناعة تديره شركة أجنبية في بلد لا زالت آثار البداوة قائمة فيه ونواب الهيئة يجلدون المُدخِّنَ حدَّ الخمر إذا ضُبِطَ وهو يدخن؛ وفي مساجد الرياض كانوا يُحَضِّرون المُصلِّين، أي يقرؤون أسماءَهم قبل الإقامة، ومن يُضْبَطُ متخلِّفًا غائبًا قد يُعاقب..
هذه قفزةٌ غيرُ مفهومةٍ؟!
وذاتَ يوم من أيام سنة 1376هـ؛ وفي الصباح الباكر؛ وبينما أنا أُصْلِحُ "كَرَافِتَّتِي" وقبعتي؛ استعدادًا للانطلاق إلى المعهد، سمعت الوالد يناديني:
_ يا أيزنهاور.
وكان يُشبِّهُني بهذا القائد الأمريكي؛ ووجه الشبه اللباسُ لا غير؛ ويقولها تعبيرًا عن ضيق صدره بهذا اللباس.
فلما أقبلْتُ عليه فُوجِئْتُ به يقول وبكل حزمٍ:
_ اليومَ تذهبُ إلى مدارس المسلمين، لقد أَلْحَقْتُكَ بالمعهد العلمي.
وكان هو المعهد الذي أنشأه سماحةُ مفتي الديار السعودية الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله، ويديره أخوه فضيلة الشيخ عبد اللطيف بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله، وكان الوالد مدرسًا بهذا المعهد منذ إنشائه عام 1371هـ
وكانت مفاجأةً صاعقةً؛ فأضربْتُ عن الدراسة؛ إذْ كنتُ منسجمًا مع ذلك المعهد الألماني الذي كنتُ أَدْرُسُ فيه؛ ولا أحبُّ تَرْكَهُ؛ ولم يَنْبِس الوالدُ بكلمةٍ؛ تركني بإضرابي شهرًا؛ حتى أحسستُ أنني سأخسر الدراسةَ كلَّها، فذهبْتُ إلى المعهد العلمي الشرعي؛ وكانت نقطة تحوُّلٍ في حياتي؛ الفضلُ فيها يعود _ بعد الله _ إلى الوالد رحمه الله.
كان مبنى المعهد العلمي في البداية في "أُمِّ قُبَيْس" في قصرٍ من القصور الطينية، وكان مديره ابن المفتي الشيخ عبد العزيز آل الشيخ؛ ثم انتقل المعهد إلى مبنى حديثٍ بُنِيَ خصيصًا له، يقع في أول شارع الوزير من جهة حيِّ "دُخْنَه"، وبجواره مبنى بلدية الرياض، وأمام مبنى البلدية حديقة كبيرة كانت تُسمى "حديقة البلدية"، كانت منتدًى ثقافيًا؛ إذ بعد صلاة المغرب يُلْقي بعضُ العلماء كلماتٍ؛ وأول ما سمعنا الشيخ محمد محمود الصواف رحمه الله في هذه الحديقة..
وكانت الدراسة بالمعهد زاخرةً غنيةً، والمدرسون من كبار الأزهريين، ومن السعوديين الممتازين:
لا زلْتُ أذكر مدرسَ الجغرافيا؛ إنه الشيخ محمد علي عبد الرحيم رئيس جماعة أنصار السنة المحمدية بالإسكندرية، وأستاذ التاريخ الشيخ محمد المختار المزيد الشنقيطي؛ من أهل المدينة النبوية ومن علمائها، وكنا نظن أنه يحفظ تاريخ ابن كثير "البداية" عن ظهر قلب؛ ولما تتبعناه وجدناه كذلك..
وكان يدرِّسنا الفقهَ الشيخُ عبد العزيز السلمان، والتفسيرَ الشيخُ عبد المحسن آل الشيخ، والنحوَ الشيخُ علي الدخيل، والتوحيدَ الشيخُ يوسفُ المَلَاحِي..
وكان الشيخ المَلَاحِي جريئًا في الحق، فألقى كلمةً في حديقة البلدية بعد صلاة المغرب انتقد فيها تلميحًا لا تصريحًا القوميةَ العربيةَ، فنهض الشبابُ وضربوه، وهُرِعنا ندافع عنه؛ فَنَشِبَتْ معركةٌ حاميةُ الوطيس بين الشباب، وكلُّهُم من طلاب المعهد، وتطايرت "الشُّمُغُ" و"الطَّوَاقي"؛ حتى رددنا الهجومَ عن شيخنا بصعوبةٍ بالغةٍ؛ فقد كان الناصريون أكثريةً، وكادت الكثرةُ تغلب الشجاعةَ.
هذه كانت ظاهرةً واضحةً، وهي أن معظمَ الشباب أيامَهَا يعبدون "جمالَ عبد الناصر" وكان مَدُّ "الناصرية" في أَوْجِهِ، وكانت هذه الواقعةُ نذيرَ الخطر.
فأعلنوا في ذلك الأسبوع عن محاضرةٍ بعنوان "معنى لا إله إلا الله" لفضيلة الشيخ عبد العزيز بن باز، وتوجَّسَ الشباب أن الشيخ ابن باز لن يُفَوِّتَ الفرصةَ للحديث عن القومية العربية، وعن جمال عبد الناصر؛ فاكتُظَّتْ بهم قاعةُ المحاضرات وما حولها، وتكلَّم الشيخُ عن معنى لا إله إلا الله فأَبْدَعَ وعرَّج في آخر كلامه على القومية العربية وبيَّنَ أنها مذهبٌ هدَّامٌ، وأن من يُرَوِّج لها مخالفٌ للإسلام..
وارتفعت هتافاتُ الطلاب ضدَّ الشيخ، وطَنْطَنَ في أرجاء المكان هتافُ "تحيا القومية العربية"، و"تسقط الرجعية العربية"؛ وحاول سماحةُ المفتي الشيخ محمد بن إبراهيم إنقاذَ الموقف، فطلب "الميكروفون"؛ فأتوا باللاقط عنده؛ فتكلَّمَ وهو جالس في مكانه؛ فعاتب الشيخ ابْنَ باز على أسلوبِهِ وقال:
_ كان ينبغي على فضيلته أن يتوخَّى الحذرَ في كلامِهِ، ويلتزمَ بأسلوب الحكمةِ والموعظةِ الحسنة..
لكنَّ الجميع انتبه إلى أن سماحته لم يغلِّط الشيخَ في مضمون كلامِهِ..
ولم يَرُقْ هذا العتابُ للشيخ ابن باز من شيخه المفتي، وأظنه قدَّر أنه قد يُشكِّكُ في مضمون كلامِهِ، مما يضعف هجومَهُ على "القومية العربية"؛ فطلب الكلمة مرةً أخرى وصَعَدَ على المَنَصَّةِ وأعاد الكرةَ موضحًا كلامَهُ أكثَرَ من ذي قبل، وبدأ الاضطرابُ يسودُ المكانَ، وكاد الطلاب يشتبكون بالأيدي؛ فقد انقسموا قسمين، قسم يهتف "تحيا القومية العربية" وقسم آخر يهتف ضدها.
عندئذ أَمَرَ سماحةُ المفتي بإنهاء الجلسة؛ وانصرف مغادرًا.
وكان الجوُّ الفكريُّ والأدبيُّ حيًّا بشكل عجيب، وصار المعهد العلمي بؤرةَ الحِرَاكِ الفكريِّ والثقافيِّ في الرياض، وكان يُقام احتفالٌ أدبيٌّ كلَّ أسبوع، يكون عامرًا بالحيوية الأدبية والثقافية، ويحضره سماحة المفتي، وأخوه الشيخ عبد اللطيف، والشيخ عبد العزيز بن باز، وغيرهم من المشايخ، ولم يكن الشيخ ابن باز يُفوِّت أيَّ ملحوظة تحتاج إلى تصويب إلا علَّقَ عليها؛ ومع كونه كفيفَ البصر فإنه كان دقيقَ الملاحظة؛ وله ذاكرة عجيبة..
مرةً أَجْرَى مذيعُ الحفل الأدبي الأسبوعي مقابلةً مع مدير تحرير جريدة "البلاد" الأستاذ "حامد دمنهوري" فتكرر في كلام "دمنهوري" عبارة: أشكر الظروف..
فانتقده الشيخ في ذلك وقال: لا يجوز أن تشكر الظروف ولكن تشكر الله الذي هيأ الظروف.
ولا أنسى ذلك الموقف العجيب؛ حينما ألقى أحدُ طلاب كلية اللغة العربية قصيدةً قويةً رائعةً؛ فلم يملك الطلاب أنفسَهُم فارتفع التصفيق؛ وكان التصفيق ممنوعًا؛ فقامَ الشيخُ عبدُ اللطيف آل الشيخ باعتباره رئيس المعهد؛ فوبَّخَ الطلابَ على ذلك؛ وكان مما قال:
_ التصفيقُ للنساء والتكبيرُ للرجال؛ فإذا أعجبكم شيء فكبروا.
واستمرَّ الشاعر في إلقاء قصيدته؛ فاشتد التصفيق؛ وكان موقفًا حَرِجًا؛ لأنه يمثل تمردًا من الطلاب على رئيس المعهد؛ وبقينا متحيرين متوجسين: ماذا سيفعل، وكيف سيواجه ذلك الجمهورَ المتمرد؟
وقف الشيخ وتوجَّهَ بالكلام إلى الشاعر وقال بغضب:
_ إنْ صفَّقُوا لَكْ مرةً أخرى أَنَزِّلْك ولَا عَدْ تَطْلَعْ هذه المنصة مرةً ثانية.
وكان هذا التهديد كافيًا لِلرَّدْعِ؛ لم يصفقْ أحدٌ خوفًا من حرمانهم من شاعرهم المحبوب.
وأذكر من نماذج الحِرَاكِ العلميِّ أن أحدَ "السَّرَاحِين" ألقى محاضرة استمرت ساعةً ونصف، كان موضوعها "الفرق بين هل وهمزة الاستفهام"؛ وجاءَ بعلمٍ عجيبٍ في النحو وفلسفتِهِ.
في هذه الأجواء العلمية الزاخرة، وَاصَلْتُ الدراسةَ في القسم التمهيدي؛ ومدته ثلاثُ سنوات؛ وهو يعادل المرحلة الإعدادية، ثم القسم الثانوي ومدته أربعُ سنوات، درسْتُ منها سنةً واحدة؛ قبل الانتقال إلى المدينة المنورة..
لكن كانت هنا مشكلة طريفة واجهها الوالد رحمه الله بحكمةٍ تربويةٍ رائعةٍ..
لقد كنْتُ شغوفًا بالرسم والزخرفة، وهذه من بقايا تأثيرات "معهد الملك سعود للتربية والصناعة" إذْ كنتُ أدرس فيه قبل انتقالي منه في قسم الرسم والزخرفة؛ فصِرْتُ أَقْضِي مُعْظَمَ وقتي بين الفرشاة والألوان؛ وقد رسمْتُ لوحةً مائيةً للهَدَا بالطائف، وكانت اللوحة 100 سم × 70 سم؛ واستغرقَتْ مني سنةً كاملة؛ وكان الوالد يراقب ذلك منزعجًا؛ دون أن يمنعني أو يعارضني.
ولما شعرْتُ بهذه المساحة من الحرية تماديْتُ فرسمْتُ الوالدَ نفسَهُ..
كانت له جلسةٌ مُطَوَّلَةٌ بعد الغداء لشرب الشاي "الطَّلْخ" _ أي الخالي من السكر _، فراقبْتُهُ مِن بُعْد بحيث لا يراني ورسمْتُهُ، وكانت من أجمل اللوحات التي رسمتُهَا؛ وخَبَّأْتُهَا لكيلا يراها الوالد، ومع ذلك اكتشفها يومًا بين أوراقي، فصلَّبَ عليها بالحبر الناشف وكتب عليها جملة واحدة فقط: "حرام".
وكان يُدرِّسنَا الخطَّ في المعهد العلمي الشيخُ "عبد السميع قَنْصُوه"، وهو في نفس الوقت كاتبُ الشهادات، وكان من أساتذة معهد الخطوط العربية بالقاهرة؛ ثم انتقل إلى "الرياض"؛ فشكا الوالدُ إليه حَالِي وجنوني بالرسم، فقال له الشيخ "عبد السميع":
_ إوْعَى يا شيخ عبد الفتاح لا تعاقبِ الابْنَ على ذلك أو تضغط عليه، دي هواية مسيطرة ولا يمكن الخلاصُ منها؛ لكن يمكن التخفيفُ من جنونها؛ أَرْسِلْ عبدَ العزيز إليَّ في منزلنا كلَّ يوم بين المغرب والعشاء أُعَلِّمهُ فنونَ الخط.
وكان ذلك، وبَهَرَني إتقانه لفنون الخط؛ وسَحَرَنِي جمالُ الخط العربي، فتعلَّمْتُ منه أكثر من ستة أنواع من الخط العربي؛ كان أجملَهَا على الإطلاق "الثُّلُث" وكان أصعبَهَا، وشغلني الخط عن الرسم فكدت أنساه، والخط عِلم جعل النبيُّ صلى الله عليه وسلم تعليمَهُ فداءًا لبعض أسرى بدرٍ من المشركين وكفى بهذا دليلًا على مكانته.
[ الحلقة القادمة: مجلة الثقافة ومجلة الرسالة ]
|